
غزة ومحور الشر
بقلم سنان أنطون
شاعر عراقي
«هذه البنايات القديمة الضخمة/قاعات المؤتمرات الواسعة/أبوابها المبطنة بالجلد/حيث يزنون الحياة والموت/بلا لحظة خوف من أن يحاسبهم أحد/ثم ينصرفون ليأكلوا بترف/ويشربوا أنخاب بعضهم بعضا/في نواد خاصة أو قصور في الريف » (تشارلز سيميك 1938-2023).
في عام 2021، قدّرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف)، أن واحداً من كل ثلاثة أطفال في غزة بحاجة إلى رعاية بسبب الصدمات النفسية التي خلفتها آثار الحروب الإسرائيلية التي شهدوها (في 2009، 2012، 2014، 2019، 2021). وفي 2022 التقى موظفو مؤسسةSave the Children «انقذوا الأطفال» المعروفة، بخمسمئة طفل في غزّة وأظهر 80% منهم أعراض صدمات نفسية. وكان نصفهم قد فكروا بالانتحار. وذكر أربعة من بين كل خمسة أنهم يعانون من الاكتئاب والحزن والخوف. كل هذا قبل السابع من أكتوبر! أما عن الوضع الاقتصادي قبل السابع من أكتوبر، فحسب برنامج الغذاء العالمي، كان حوالي 60% من سكان غزة يعانون من الفقر و63% منهم يعانون من نقص الأمن الغذائي. وكل ذلك بسبب الحصار المفروض على غزة منذ 2007. إذا كان هذا هو الوضع قبل طوفان الأقصى، فيمكن للمرء أن يحاول استيعاب أو تقدير حجم الخراب والدمار الذي ألحقته إسرائيل بكل تفاصيل الحياة، وبالحجر والبشر في غزّة بعد أربعة أشهر من حرب إبادة وحشيّة.
هناك اليوم 19 ألف طفل في غزة بلا أب ولا أم، ولا حتى أي شخص بالغ يمكن أن يعتني بهم. هذا ما صرّح به جوناثان كركس مدير الاتصالات في منظمة اليونيسيف. الكثير من هؤلاء الأطفال عُثِر عليهم على الطرقات، أو انتشلوا من تحت ركام البيوت التي دمّرها القصف. بعض هؤلاء لا تُعرف أسماؤهم. والبعض منهم أصيب بخرس مؤقت من هول الصدمة، وتقدر منظمة اليونسيف، أن كل أطفال غزّة بحاجة إلى علاج نفسي ولفترة طويلة، وهناك مجاعة يعاني منها كل أهل غزة بعد تضييق الحصار ومنع دخول المعونات وتعطيل أساسيات الحياة. في خضم كل هذا الموت والوجع والجوع قررت عدة دول (الولايات المتحدة وأستراليا وكندا وبريطانيا وألمانيا وفنلندا وهولندا وإيطاليا واليابان وفرنسا) تعليق تمويلها لمنظمة الأونروا (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين)، وهي، كما وصفها الأمين العام للأمم المتحدة، «العمود الفقري لجميع الجهود الإنسانية في غزة». وجاء قرار هذه الدول بعد ادعاء إسرائيل أن عدداً من موظفي الأونروا في غزة شاركوا في عملية طوفان الأقصى، وليس صدفة أن إعلان إسرائيل جاء بعد يوم واحد من قرار محكمة العدل الدولية، ومع أن الأدلة التي قدمتها إسرائيل غير مقنعة، وأن الأونروا فصلت المتهمين، إلا أن ذلك لم يشفع أو يغيّر من قرار هذه الدول. وكان لافتاً موقف النرويج التي قررت مواصلة تمويل الأونروا، حيث قال وزير خارجيتها إن الأونروا «تمثل شريان الحياة لنحو 1.5 مليون لاجئ من الأشخاص الذين يعانون من ظروف مأساوية في غزة وفي المنطقة بأكملها. وكان خمسة عشر رئيساً لوكالة أممية ودولية أكدوا في بيان على ضرورة مواصلة دعم الأونروا وعدم الحيلولة دون تنفيذ ولايتها المتمثلة في خدمة أناس بأمس الحاجة للمساعدات، وأكدوا أن العالم لا يمكنه التخلي عن سكان غزة. لم تنضم النرويج إلى «محور الشر» وهو المصطلح الذي خطر ببال كاتب السطور حين سمع عن قرار هذه الدول. فماذا يكون قطع شريان الحياة الوحيد عن مئات الآلاف وهم على حافة المجاعة، إذا لم يكن الشر بعينه. إن تفكيك وتدمير الأونروا هو أصلاً هدف إسرائيلي معلن. في الرابع من يناير/كانون الثاني قالت نوغا آربيل مسؤولة سابقة في وزارة الخارجية الإسرائيلية، أثناء مداخلة في الكنيست بكل وضوح: «من المستحيل الانتصار في الحرب إذا لم ندمّر الأونروا ويجب أن يبدأ هذا التدمير حالاً».
يعود مصطلح «محور الشر» إلى حقبة جورج بوش الابن ومخططات غزو العراق. يذكر ديفيد فروم، أحد كتاب خطابات بوش أن غيرسون، الكاتب الرئيسي طلب منه في أواخر 2001 أن يبلور فكرة شن حرب ضد العراق في جملة أو اثنتين. وكان فروم قد اقترح في البدء «محور الكراهية» و«المحور» تحيل بالطبع إلى «دول المحور» التي حاربها الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وأضافت كوندوليزا رايس، مستشارة الأمن القومي آنذاك إيران إلى العراق. أما كوريا الشمالية فقد أضيفت لاحقاً لكيلا يقتصر الأمر على دول ذات أغلبية مسلمة. وفي التاسع والعشرين من يناير عام 2002 استخدم بوش المصطلح في خطابه. وإذا ما كان الهدف من الخطاب والمصطلح تحشيد المجتمع الأمريكي والعالم لشن حرب ضد العراق، فإن حرباً أخرى كانت مستمرة وبضراوة ضد الشعب العراقي منذ 1990 بصيغة حصار وعقوبات اقتصادية مدمّرة، سمتها الباحثة الأمريكية جوي غوردون حربا لامرئية ووضعت التعبير عنواناً لكتابها القيّم. والمغزى هنا أن الذين لا تقتلهم القذائف والصواريخ والقنابل، يمكن أن يقتلهم الحصار الذي يتكفّل بالتجويع والحرمان من الغذاء والدواء، هناك قتلة لا يرتدون البزات العسكرية، ولا يحملون الأسلحة، ولا يصوبون رشاشاتهم أو مدافعهم، ولا يضغطون على زر لإلقاء قنبلة، أو لتوجيه مسيرة. فهم مدنيون (مثل ضحاياهم) يجلسون بهدوء في قاعات بعيدة عن مسرح القتل، وفي قارة أخرى، ويتحدّثون أكثر من لغة، بدبلوماسية، قبل وبعد أن يصدروا تصريحات بالقتل تبارك الإبادة.
كاتب عراقي