ثقافة وفنون

«تجارب وآفاق» معرض للرسام العراقي المغترب حسن حداد: شعرية التشكيل البصري في مواجهة تراجيديا الحياة

«تجارب وآفاق» معرض للرسام العراقي المغترب حسن حداد: شعرية التشكيل البصري في مواجهة تراجيديا الحياة

يمكن الإحساس بشحنة من العبثية إزاء الوجود في معظم لوحات حسن حداد، لكنها لا ترتبط بتيار العبث الذي أفرزته تجارب الطليعيين الأوروبيين في خمسينات القرن الماضي، إنما مبعثها تلك القسمات الحادة التي دمغت وجه القرن الواحد والعشرين بالعنف والكراهية والعنصرية وحروب الهويات الصغيرة والأوبئة، وقد جاءت تلك الشحنة بتوتراتها وهواجسها المرتعشة على شكل إيحاءات مستترة، عمل الفنان بحرص شديد على أن تتسلل بإيقاع خفي إلى المتلقي، وهذا ما يكرس أسلوبه في انحيازه إلى تشكيل نص بصري على سطح القماش، يبدو في الكثافة الطاغية على عناصر بنائه أقرب إلى ما تزخر به ممكنات الصورة الشعرية في قصيدة النثر من استعارات ومجاز ورموز.

عالمه الخاص

يحتفظ حداد – المقيم في مدينة لايبزك الألمانية منذ ما يزيد على عقدين من الزمان – بتقنيات ذاتية منفتحة على فن الرسم المعاصر، وتحمل في تحققات حضورها نبرته الأسلوبية الخاصة التي لا تخطئها عين المتلقي، ومن السهولة بمكان الإشارة إليها في مجمل ما أنجزه من لوحات، ومعرضه الأخير الذي يقام في العاصمة الأردنية عمان للفترة من 2 ولغاية 16 حزيران (يونيو) الجاري الذي حمل عنوان «تجارب وآفاق» يمكن القول إنه أفضل تجسيد لمنظومة القيم الفنية الدائمة التجدد في نسق تجربته، وهذا مؤشر يأتي به المعرض لتأكيد عالمه الخاص الذي يشي بشخصيته الفنية، وإن ما يحققه من مفردات تقنية تجعله غير خاضع لما هو ناجز من تنميطات أسلوبية تُحسب على تجارب الرسم المعاصر في العراق، فقد أخذه وعيه وإصراره على تأكيد شخصيته الفنية إلى الانفراد بذاته، بعيدا عن صخب الدوائر المتناسلة في المشهد التشكيلي، ويأتي ذلك في إطار بحثه المستمر داخل ذاته عن لغة تحمل دلالاتها الخاصة.
في إطار تحديد علاقته مع المتلقي لم يكن معنيا في مجمل نتاجه بفكرة التوصيل، إنما كان يهدف أن يكون قريبا من منطق الإبداع، لأنه يرى أن الرؤية في العمل الإبداعي تشتغل على تقنية الانزياح في التعامل مع مفردات اللوحة وأسلوبيتها في تكوين وتحديد المساحات وشكل الخطوط، لتحيلها بالتالي من منطقة الإِخبار وتطابقية المنحى الواقعي إلى منطقة التخييل، لتكون لغته مكتفية بذاتها من حيث الدلالة. بمعنى أن صياغة مفردات التشكيل لديه لا تستجير باللغة القياسية في رؤية الأشياء حتى وهو يتحايث مع رموز واقعية، بل يذهب بلغته بعيدا في تأسيس معمارية الفضاء البصري، سعيا لإنتاج دلالات لا يكتمل معناها خارج اللوحة. ومن يطلع على لوحات المعرض سيجد أن حساسيته اللاتقليدية إزاء ما يتناوله من أفكار، تعود في جرأة شطحاتها إلى ما جاءت به تمردات الحداثة من حيث انفتاح استراتيجية الشكل على بنى لا محدودة، إلى جانب تجاوزاتها المستمرة للأطر الفنية المنجزة في ما يتعلق برؤية الأشياء.

انكسار المنطق

تريَّث حداد ولفترة طويلة قبل أن يطرح تجاربه أمام الجمهور، وسبب ذلك يعود إلى اهتمامه بالتفكير في تقنيات العمل، والاشتغال على الشكل الحامل للرؤية، فكان من البديهي وهو على هذه الصورة من الاشتباك في الوعي، أن يكون متمردا على ذاته قبل أن يتمرد على مخرجات المشهد التشكيلي العراقي، وقد اكتسبت أدواته بفعل ما فرضه على نفسه من عزلة اختيارية ومثابرة على العمل بصمت، توقا لإنجاز صياغة فنية تستوعب ما يتحرك في دواخله من توترات نفسية، وأسئلة يتقصى فيها المسافة التي تفصله عن فوضى ما يحيطه. وعندما تتأمل لوحاته يتوجب عليك أن تَتَخَفَّفَ مما تحمله من أفكار مسبقة، لكي تتمكن من التوغل في عوالمها المغلَّفِة بغلالة شفافة من ألوان كابية، وانكسار في منطقية العلاقات القائمة بين مفرداتها الواقعية. والفضاء في لوحاته يبدو مضطربا بخوائه، كما لو أنه مساحة فارغة مستلة من دهاليز الذاكرة، اقتحمها صمت معبأ بغموض كثيف. كما أن تعدد مستويات التشظي في ما تجيش به أعماله من رموز واقعية دالة، توحي بما يواجه الإنسان من مظاهر عناوينها القسوة والعنف والتهميش، وما يتبلور في داخله من صراع ذاتي.

ما بين المكان واللامكان

يُمعن حدَّاد في معرضه الأخير النظر في خيالاته، مُحتميا بظلالها، مستثمرا جموحها، خاصة عندما يطرق في عددٍ من لوحاته أبواب ذاكرة عراقية معاصرة معبأة بالتراجيديا، سيما وأنه منذ انخراطه في عالم الرسم، كان مشروعه الفني أن يزيح عن تجربته – كإنسان قبل الفنان – وحشة شاحبة خلَّفتها سنوات متشابهات، سبق له أن عاش تفاصيلها في قضاء بَلَد شمال بغداد حيث موطن ولادته وصباه، وكان لتأرجح هذا القضاء بين المكان واللامكان، بين أن يُنظر إليه باعتباره قرية أو مدينة صغيرة، أن يترك في ذاكرته قلقا وأسئلة تدور حول ذاته الضائعة بين الوجود والعدم، ما دفعه – وهو لم يزل في بداية مساره الفني – إلى استثمار إشارات مستوحاة من عناصر واقعية لا تخطئها عين المتلقي، إلاَّ أن مختبر تقنياته في اللون وحركية الأشكال وتحولاتها، جعلاه يمارس في لوحاته تمويها خاطفا لعين المتلقي، قاصدا من وراء ذلك أن يضعه في لحظة استغراق، تستمد قوتها من ظلال الدهشة والغرابة والغموض، ما يستدعي منه الدخول في حالة من التأمل، علَّه يلامس ما قد تخفيه نصوصه البصرية من أفكار. وفي لعبته القائمة على المراوغة، دائما ما ينحاز إلى مساحات لونية كامدة يسودها شحوب واضح وهي تحيط بالكائن الإنساني، وتتدفق على سطح لوحاته أشكال مختلفة لحركة خطوط قوية وحادة، وبقدر ما تكون الحركة لديه نابعة من إحساسه العالي بالقيمة الجمالية لأشكال الخط المتكسِّر والمنحني والدائري، بقدر ما تأتي تعبيرا عن كشوفاته لما تختزنه شخوصه من هواجس وانفعالات دفينة.

فضاء بصري

يهيمن الفضاء البصري على ما تنطوي عليه لوحاته من مضمرات على صلة وثيقة بالحياة والأشياء والأفكار، وهذا ما يعزز قوة إشاراته الجمالية، كما أن ثراء شكلانية اشتغالاته تتيح للمتلقي الدخول إلى عالم تخيلاته الذاتية بما تتفرد به من عناصر تبعث على الدهشة، حيث تتآلف وبغرابة، علاقات انسيابية بين مساحات من ألوان لا تبعث على الاطمئنان. عند معاينة ما احتواه المعرض من لوحات يمكن قراءة حالة من التساؤلات تطال كل ما يتعلق بعزلة الإنسان وانفراده بنفسه وأحلامه في حياته اليومية ومعتقداته وأوهامه، وتبقى فكرة الإنسان الذي يقاوم الهزيمة تمثل موضوعة مركزية في متن خطابه الفني، لذا نجده حريصا على أن يخاطب المتلقي بعيدا عن لونه وجنسه ولغته مؤكدا بذلك على مسؤولية الفنان في أن يُخلِص في رؤاه لصالح تمجيد الحياة الإنسانية.

رؤية المكان

هناك وشائج عاطفية مرتبطة بالمكان غالبا ما تفرض سلطتها على من غادر وطنه الأم، وسبق لحسن حداد أن مرَّ بهجرات داخلية متعددة قبل أن يغادر العراق، وهذا ما جعل نتاجه الفني لا يسقط في دوامة من النوستالجيا مثل آخرين من زملائه، وفي كلمته التي تصدرت بروشور المعرض أشار إلى ذلك: «في حياتي هناك هجرات متعددة، أغلبها هجرات داخلية من أجل البحث عن الذات، وهربا من الواقع الاجتماعي والسياسي، لتتوج بالهجرة الخارجية» ومن الواضح إن تجربته في المنفى الأوروبي قد دفعته إلى إعادة التفكير في معنى المكان داخل ذاته التي سبق أن اكتوت بمشاعر الاغتراب والهجرات داخل وطنه، بالتالي تصالح مع المكان أينما حطت به الرحال.

مروان ياسين الدليمي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب