أين الجيش المصري من نتائج حكم السيسي؟

أين الجيش المصري من نتائج حكم السيسي؟
يحيى مصطفى كامل
لا يُفَوِت السيسي فرصةً إلا ويذكرنا بمدى بؤس وضعنا وفقرنا، الذي يوشك أن يكون هواناً ويقارب أن ينقلب ذُلاً، وأنه حين اعتلى سدة الحكم على ظهر انقلابٍ عسكريٍ مكتمل الأركان وبائس الآفاق والنتائج (على حسن تدبيره الحركي والعملياتي) فإنه لم يجد دولة، كأنه وهو رئيس المخابرات العسكرية وأحد أعضاء مجموعة الأشرار والمتآمرين المعروفة اصطلاحاً بالمجلس العسكري الأعلى، لم يكن على درايةٍ مطلقاً بوضع البلد، ولم يتغير ذلك، ولم يعِ المزيد عن حال البلد حين أصبح وزيراً للدفاع، بل تعين عليه أن ينتظر ليقود انقلاباً لتصدمه الحقيقة المرة، التي كانت حتى ذلك الحين محتجبةً عنه تماماً، كأنها تراوغه.
والحقيقة أنه إن لم تُتح له الفرصة ليذكرنا، فإنه يجتهد في جَلَدٍ ويخلقها خلقاً في جلسات العرب و»المكلمات» التي لم يضن بها أيضاً، حيث يتخطى ذكر بؤس الحال والتذكير بالعوز خانة التبرير والمطالبة بالصبر، فيتحور إلى مَنٍ مع ما يسببه ذلك من أذى وسمٍ للأبدان كنتيجةٍ طبيعية.
بالفعل تسلم السيسي الدولة منهارة لكنه دون شك يجهز على ما تبقى منها وهكذا لن يبقى سوى الجيش والأجهزة الأمنية الذين لا يبدون أي معارضة على نتائج حكمه الكارثية
بالطبع لا يفوت علينا الغرض من ذلك الخطاب، فالخلاصة التي ينبغي أن نصل إليها أنه هو بحق، كما صُور، وكما رأى فيه كثيرون ساعة الانقلاب، المخلص بأل التعريف، ومبعوث العناية الإلهية ليعيد ترميم هذه الدولة وبعث مجدها، فإذا أضفنا إلى ذلك تصوراته، أو بالأدق توهماته الغريبة، المزعجة للغاية (والمريضة بالمعنى العلمي الإكلينيكي الأدق) عن علاقته بالذات العلية، حيث يبدو وفقاً لما ينقله لنا، أنهما يتبادلان حواراً متحضراً هادئاً وشفعناها بمركبات النقص لشخصٍ ضئيل تخمرت في عتمة ذاته رغبات تحققٍ مكبوتةٌ ودفينة، فسوف يصبح استبداده والتزامه برؤيته وحده نتيجةً طبيعية ومنطقية أيضاً. والشاهد أنه ماضٍ في مشروعه وقناعاته لإعادة صياغة وهيكلة هذا المجتمع، مستعيناً بحسٍ عملي واقعي للغاية، وقسوةٍ لا تعرف رحمة، ولا تقيم وزناً لا للمعاناة ولا للحياة البشرية، الأمر الذي لا يصدر إلا عن شخصٍ يخاطب الآلهة في ذهنه وهو في الحقيقة، على الأرض، شخصية مريضة تماماً، «سايكوباثي». لكن اللافت للنظر أنه، على كثرة ما تحدث، لم يقدم لنا يوماً تصوراً متسقاً، أو طرحاً أصيلاً عن الدولة، عن فهمه لها وما تعبر عنه، وما الذي كان اضمحل فيها، فالرجل ينتمي إلى ما بعد الأيديولوجيا، وواقعياً فهو بعد وما وراء كل شيء في مرحلة الهلامية الفكرية. إلا أننا إذ نقر أن له رأسا، ولا بد أن أفكاراً تسكنها، شأنه في ذلك شأن كل أفراد فصيلة الإنسان العاقل، العاقل منهم وضعيف العقل والملتاث، وانطلاقاً من أن مجموعة الأفكار التي تشغل أي رأس، هي في نهاية المطاف نوع ما من الأيديولوجيا، أو لنقل القناعات، فإننا نستطيع أن نستنتج جملةً من الأفكار (عدا تلك الأوهام عن ذاته المتضخمة والفريدة) تحركه وتشكل منطلقاته ومرتكزاته. وفقاً لهذا المفهوم فإن السيسي يساوي بين لفظة «البلد» ومصر القُطر الجغرافي بسكانه وجهاز الدولة، فالدولة لديه كلمةٌ شاملة، والأكيد أنه يرى أن قلب هذا التشكيل، وحجر الميزان فيه والكتلة الأهم هي القوات المسلحة، وما يتحلق حولها ويلحق بها من أذرعٍ أمنية واستخباراتية.
يقيناً هو لم يشذ ولم يأت بجديد، بل لعله ارتد إلى تلك الصيغة الجوهرية والمفصلية المؤسسة والحاكمة لنظام يوليو، منذ البداية، مذ التأم الضباط وقبل أن يتحركوا من ثكناتهم، ألا وهي الاعتماد بالأساس على المؤسسة العسكرية، لتوفير الكوادر لشغل المناصب، نظراً لثقة القيادة فيهم ولانتمائهم إلى المدرسة والعقلية نفسها والأسلوب الذي يعتمد على إطاعة الأوامر وفق تراتبيةٍ صارمة لا تسائل ولا تناقش (وإن حدث يتعرض صاحبها للإقصاء والاستبدال بكادرٍ آخر ملائم). أما الملمح الآخر، المترتب منطقياً بصورةٍ مباشرة تكاد تكون آلية، أنه في أعقاب كل هزةٍ، أو تغييرٍ عنيف، كالذي حدث في يناير 2011 ويونيو2013، يتم تقريب دائرة الضباط الذين أسهموا في الانقلاب ويدينون من ثم بالولاء لقائده والتوسع في المكافآت من مناصب ومنح وعطايا مادية، لضمان استمرار ولائهم مع مراقبتهم عن كثب بالطبع للحيلولة دون تكرار نموذج الانقلاب. لسنا بحاجةٍ إلى ذكاءٍ مفرطٍ أو عبقريةٍ في التحليل لنقرر أن تكرار الأفعال وإعادة خلق ظرفٍ بعينه (ما تيسر ذلك مع الاختلافات في الزمان والمكان) من شأنه بطبيعة الحال أن يؤدي إلى نتيجة مماثلة، أي إلى مؤسسةٍ عسكرية غير مهنية بالمرة، هَمُ ضباطها الأكبر الإثراء وجني المكاسب وقضم قطعة من الكعكة قبل أن تتفتت، خاصةً أن انقلاب السيسي جاء ممولاً ومداراً من دول الخليج، يعيش وسط أزمةٍ اقتصادية متعاظمة سببها الأول والرئيسي (وربما الوحيد) حماقة هذا النظام وبالتحديد السيسي ورعونته واستبداده بالقرارات السياسية والاقتصادية التي لا يفقه فيها (ولا في غيرها للأمانة) شيئاً.
وكطبيعة هذا النظام منذ أُسس يتم ردم الفجوة بسيلٍ من الأساطير والأكاذيب، يعاد خلقها وتغذيتها، وكما سمعنا عن القاهر والظاهر وسفينة الفضاء المصرية، رأينا مشتريات سلاحٍ ضخمة، هي في حقيقتها فرصة للمظهرة والعمولات والأهم رشى مقنعة لرأسماليات الغرب للسكوت عن ملفاتٍ بعينها (اغتيال جوليو ريجيني أقرب مثال) والانقلاب نفسه. ما اختلف هو فقدان أي مشروعٍ للتنمية والاستقلال الوطني، لنصل حيث نحن الآن، فقيمة الجنيه في انهيار، والاقتصاد في سقطة حرة، والدين الخارجي وصل إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، وجُنت الأسعار وفُقدت السيطرة عليها، أو أنه لا توجد إرادة سياسية لضبطها، ومن ثم يشكو الناس من الغلاء الفاحش وهبوط مستوى المعيشة وتردي مستوى الخدمات التي تُقطع بصورة ممنهجة ومستمرة وأقرب مثالٍ على ذلك هو الكهرباء. أما خارجياً، فقد قيل لنا إن الجيش المصري من أقوى جيوش العالم والكل يهابه، فأين هم من تغول إسرائيل على غزة وقتل الجنود المصريين؟ قديماً، حين صدر الميثاق في محاولةٍ لإضفاء صبغة، أو صياغة أيديولوجية لانقلاب يوليو، وقد نكون مجاملين فنعتبره محاولة لفهم الذات والدوافع أبعد من مجرد التلميع، زعم ذلك الميثاق أن الجيش تقدم ليقوم بدور الطليعة القائدة لصفوف الجماهير غير المنظمة لكن الزاحفة، والآن مع غياب القوى السياسية المنظمة نتيجة القمع السياسي والإخصاء، ومحاولة إعادة هيكلة الدولة بحيث تنتفي أي استقلالية للمؤسسات، حيث تصبح مجرد أدوات تنفيذية لجيش ضامناً لتجسيد خيالات السيسي ورؤاه، فأين هو هذا الجيش؟
لئن كان السيسي يشكو من شبه الدولة أو تهلهلها، فإن الأكيد بكل الدلالات أنه في حين أن مؤسسات الدولة كان مستواها يزداد تردياً طيلة العقود التي سبقته، فإنها لم تتعرض لهجمة تدميرٍ تصفوية كالتي يشنها السيسي بنجاحٍ مبهر. لست ممن ينتظرون خيراً من أو يعولون على الجيش المصري (أو أي جيشٍ) لكننا نسائله من المنطلقات المزعومة لقياداته: أين هم من هذا الهوان والخراب وقد ثبت بواقع الأحداث أنهم منغمسون في السياسة؟ بالفعل لقد تسلم السيسي الدولة منهارةً، شبه دولة، لكنه دون شك يجهز عليها، أو على ما تبقى منها وبهذا الشكل لن يبقى سوى الجيش والأجهزة الأمنية الذين لا يبدون أي معارضة على الإطلاق لنتائج حكمه الكارثية، عن جهلٍ أو عدم اكتراث أو كليهما لا يهم، وبالتالي تتضح طبيعة هذه المؤسسة في بلدٍ من بلدان العالم الثالث يحكمه ديكتاتور: تشكيل عصابي.
كاتب مصري
كاتب مصري