الهوية في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر: خطاب جمالي وفاعلية ثقافية لترسيخ المقاومة

الهوية في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر: خطاب جمالي وفاعلية ثقافية لترسيخ المقاومة
مروان ياسين الدليمي
تجارب الرسم في فلسطين لها سياقها الخاص الذي تنفرد به عن غيرها بسبب طبيعة الظرف العام الذي يعيشه الرسام الفلسطيني نتيجة للأحتلال الإسرائيلي، بالتالي فإن هذه الحالة تفرض نفسها على ما يطرحه من أفكار وموضوعات وأساليب ينحاز إليها للتعبير عن تطلعاته الفنية، وسيفرض هذا المسار ملامحه على المشهد التشكيلي ودوره في المشروع الثقافي الفلسطيني بالشكل الذي يخلق جملة مفردات فنية تكون بمثابة أطر ثابتة يحرص على الالتزام بها، لأنها ذات صلة بطبيعته النضالية أولا وأخيرا، ولاشك في أن ذلك سيجعله مختلفا في كثير من الأوجه من حيث الشكل والمحتوى، إذا ما قورن بما يتم إنتاجه من تجارب تشكيلية في المنطقة العربية. فالرسام الفلسطيني حاله حال المواطن العادي، مرهونة حركته وأحلامه وأنفاسه بما تقرره قوانين وقرارات السلطات العنصرية الصهيونية، فهو أبعد من أن يتمتع مثل غيره من البشر برفاهية العيش الآدمي حتى في حدودها الدنيا، وما من فرصة أمامه لكي يتفادى أو يتغاضى حالة اللاحرية التي يعيشيها إلاّ عبر مقاومتها بكل السبل التي يستطيع الوصول إليها، والفن في طليعتها إلى جانب المواجهة المسلحة، لذا سيكون أمرا طبيعيا أن يكون مشغولا في مشاريعه الفنية في مسألة الدفاع عن هوية بلده الوطنية وعن تاريخه وجغرافيته في مجمل ما يقدمه من لوحات، وهنا يتحول الرسم إلى خطاب موجه إلى العالم لتبيان الحقيقة المغيبة وتفكيك سردية التزييف التي يصدرها نظام الفصل العنصري في الكيان المزعوم.
لاجدال في أن الفن التشكيلي الفلسطيني والرسم على وجه خاص، قد ارتبط – في نشأته وتطوره وفهمه – بالظروف والوقائع التي يعيشها الفنانون الفلسطينيون داخل أرضهم وخارجها، ومن هذه الناحية يشتركون مع بقية النخب العربية المبدعة في الحقول الأخرى مثل الشعراء والروائيين وكتّاب القصة القصيرة والمسرح. فالواقع يفرض نفسه على النتاج المادي والروحي للإنسان، وفي المقابل يعاد أنتاج الواقع في إطار النتاج الفني، وقد ينحاز الفنان إلى الواقعية في تحديد علاقته مع الواقع مثلما فعل الرسام الرائد ابراهيم غنام الذي يعد واحدا من مؤسسي فن الرسم الفلسطيني في مطلع خمسينيات القرن الماضي، وأعماله التي استلهم مفرداتها من الحياة اليومية للفلاح الفلسطيني جاءت لتسرد الوعي الاجتماعي في تفاصيل القرية الفلسطينية قبل وبعد النكبة، وفي ذات الاتجاه تشكلت الموضوعات التي قدمتها الرسامة تمام الأكحل، التي استلهمت أفكار وموضوعات لوحاتها من مدينتها يافا التي تنتمي إليها، بما تمتلكه من خصوصية بحرية انعكست بالتالي على طبيعتها الاجتماعية، هذا إضافة إلى أنها رصد سياسات الاحتلال العنصرية كما في لوحة «جدار الفصل العنصري». ولن يختلف عن ذلك ما قدمه الرسام نبيل عناني من لوحات لم يبتعد فيها عن تمثيل مفردات مثل البيئة والمجتمع والعائلة في فلسطين. في مقابل ذلك قد يذهب الرسام باتجاه آخر فيعتمد على خياله في إعادة صياغة الواقع كما عبر عن ذلك الرسام كامل المغني، الذي بدا منشغلا في استدعاء الرموز والأساطير الفلسطينية، كما غلبت على لوحاته نزعة الاهتمام بأسلوب المدرسة السريالية.
تجليات النوستالجيا
إن العلاقة الوثيقة بين الفنان والواقع، أتاحت للفنانين مساحة رحبة من الحرية في تشكيل صور قائمة على جمالية التعبير ورهافة الحسّ، والقدرة على إدراك الواقع، الأمر الذي جعل لوحات عدد كبير منهم، جزءاً أساسياً من مفردات الحياة في المنزل الفلسطيني، كما في لوحات فتحي غبن. ونجح هذا الأسلوب في أن يستحوذ على قلوب المتلقين الفلسطينيين، وأن يبثّ فيهم الشعور بالحب لكل شيء يشير إلى بلدهم فلسطين، ولهذا فإن وجود مثل هذه اللوحات في بيوتهم هو جزء من الحفاظ على الذاكرة القومية. وقد اعتمد معظم الرسامين الفلسطينيين على اختلاف أساليبهم وأماكن تواجدهم سواء كانوا يقيمون داخل فلسطين المحتلة أو خارجها، على تصوير البيئة والمجتمع الفلسطيني، ودائما ما كانت هناك محاولات لدى أغلبهم لاستدعاء الماضي بكل ما يحمله من ذكريات شخصية وتاريخ عام، فالمُشاهد لمعظم لوحات الفنانين الفلسطينيين، يمكنه وبسهولة أن يلاحظ تجليات النوستالجيا، ويأتي ذلك في منحى ثابت من قبل غالبيتهم، لتأكيد العلاقة الوثيقة التي تجمع الماضي بالحاضر والمستقبل.
الرسم وتشكيل الوعي
مهما كانت توجهات الفنان الفلسطيني من حيث الأسلوب الذي يلجأ إليه والمدارس الفنية التي يميل إليها، فإن اللوحة تبقى في رؤية الجميع، وسيلة للتعبير عن الهوية والقضية الفلسطينية، فمن خلال الألوان والأشكال، يعكس الفنانون الفلسطينيون تاريخهم وثقافتهم ومعاناتهم، حتى بات الرسم رافدا مهما وحيويا في تشكيل الوعي الوطني للذات الفلسطينية، ومن غير الممكن أن يتصور الفنان بأن ما يقدمه من لوحات لا صلة تجمعها مع الهم الجماعي حتى في ما يبدو هما ذاتيا، وبطبيعة الحال فإن هذا الفهم للتجربة الفنية ينسجم مع ما يفرضه الصراع الوجودي الشرس الذي يخوضه الفلسطيني في كافة جوانب الحياة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية.
توثيق التاريخ والتراث
هذا التموضع الرؤيوي في فهم اللوحة أحال الفن التشكيلي الفلسطيني إلى قوة ثقافية فعالة في الحياة الاجتماعية، إلى جانب توثيق التاريخ والتراث الفلسطيني الذي يتعرض منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي الغاصب إلى عملية نهب وتزييف من قبل المؤسسات الثقافية الصهيونية، وهنا يبدو عمق وحجم المسؤولية التي تقع على عاتق الرسام الفلسطيني، طالما أن هذا النتاج يمتلك القدرة الجمالية على ترسخ الوعي بين الأجيال المتلاحقة بأهمية الموروث الفلسطيني، من عادات وتقاليد وأزياء وأكلات وأغاني وأمثال وحكايات شعبية. بمعنى أن محاكاة ما يتعلق بالملامح الفلسطينية سواء في تفاصيل الحياة في القرى أو المنازل التقليدية، يساهم في الحفاظ على الهوية الثقافية وليس مجرد تعبير عن وجهة نظر جمالية إزاء الماضي.
جبهة مقاومة ثقافية
العديد من الفنانين الفلسطينيين وظفوا فنهم للتعبير عن الصراع والمعاناة التي يعيشها شعبهم، ولوحاتهم تظهر وحشية الاحتلال وما ارتكبه من عمليات قصف وتهجير وإبادة طيلة سبعة عقود مضت على فصول هذه التراجيديا، إضافة إلى ما تعكسه من صور المقاومة والصمود، وهي في حصيلتها النهائية تساهم في تقديم خطاب فني وإعلامي يحمل قدرا من الوعي والجمال في آن حول قضية فلسطين في ظل ما تمارسه من تعتيم وتزييف المؤسسات الإعلامية الغربية ضد الإنسان الفلسطيني وقضيته النضالية. وليس أفضل من الفن في إعادة تشكيل الوعي وترصين جبهة المقاومة الثقافية، وذلك بإزاحة السرديات المضللة حول الشعب الفلسطيني باعتباره شعبا همجيا يصعب عليه أن يتخلى عن أساليب الإرهاب، والتي تنسج خيوطها ترسانة الإعلام الغربي.
بهذا السياق الثقافي يكون الرسم من أفضل أدوات التعبير عن الصراع المستمر مع الاحتلال الإسرائيلي، ووسيلة تقنية لا يمكن الاستغناء عنها لإيقاظ الشعور بالتضامن الإنساني مع المقاومة الفلسطينية، وما يكابده الفلسطينيون من نساء وأطفال وشيوخ من فصول مؤلمة جراء العدوان المستمر الذي يتعرضون له من قبل جيش الاحتلال، بالتالي فإن الرسم بهذه الحساسية من الوعي يستحيل إلى قراءة إبداعية لطبيعة العلاقة المتشابكة بين التراث الثقافي الفلسطيني والتجارب الفنية المعاصرة.
ورغم محنة التهجير والشتات التي تعصف بالإنسان الفلسطيني منذ عقود طويلة، إضافة إلى المواجهة الدموية مع العدو الإسرائيلي، إلاَّ أن ذلك لم يقف حائلا أمام تطور تجارب الرسم وتفاعلها مع المدارس الفنية الحديثة، كما أن الرسام الفلسطيني وظف اتجاهات الرسم الحديثة لترسيخ هويته الوطنية.