مقالات

على هامش الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية (2)

على هامش الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية (2)

أنيس فوزي قاسم

من المتفق عليه كقاعدة ثابتة من قواعد القانون الدولي، أنه في النزاعات المسلحة يجب في كل الأحوال أن لا يتم استخدام القوه المسلحة ضد السكان المدنيين والأعيان المدنية. ومخالفة هذه القاعده يعتبر»عيباً» يمس الشرف العسكري لأي جندي، فضلاً عن أنه جريمة حرب و/أو جريمة ضد الإنسانية، ولذلك لا نستغرب ردة الفعل العالمية على ممارسة الجيش الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية واعتباره من أكثر جيوش العالم انحطاطاً ونذالة، وقد شهد الدكتور الجراح الأمريكي، اليهودي الديانة مارك بيرلموتر، الذي عاد مؤخراً من غزة، أن الاطفال الذين عاينهم تمّ قتلهم بقصد وتصميم من قبل قوات جيش الاحتلال، وهذه ليست الشهادة الوحيدة. واستناداً لمبدأ حماية المدنيين، ما هو الموقف من المستوطنين الذين يرفضون مغادرة مستوطناتهم، إصراراً على الاستمرار في العدوان. هل يتم استهدافهم من قبل عناصر المقاومة الفلسطينية؟ هل يمكن اعتبارهم مدنيين؟

الإصرار على إزالة المستوطنات أمرٌ في غاية الأهمية لممارسة حق تقرير المصير، ذلك أن المستوطنات أقيمت بقصد تقطيع أوصال الوحدة الإقليمية للأراضي المحتلة

والجواب القانوني أنه يمكن استهدافهم، بل هم أهداف مشروعه للمقاومة الفلسطينية، ذلك أنهم – أولاً- جزء لا يتجزأ من «جيش الدفاع الإسرائيلي»، الذي دربهم، وأعطاهم السلاح، واعتبر خدمتهم في حراسة المستوطنة التي يسكنون فيها جزءاً لا يتجزأ من خدمتهم العسكرية الإلزامية، وهم يحضرون ـ شأنهم شأن الجنود النظاميين- جلسات الاستماع لأخذ التعليمات من ضباط الجيش. وفضلاً عن أن المستوطنات ذاتها تشكل جزءاً من المنظومات «الدفاعيه» لجيش الاحتلال، وعلى ذلك استقرّت أحكام محكمة العدل العليا الإسرائيلية، فإنه في أوقات الأزمات، ينسحب أفراد الجيش من قواعدهم إلى المستوطنات، التي تصبح هي قواعدهم العسكرية. ومن ناحية القانون الدولي، فإن المستوطن يخضع للقاعدة القانونية المسماة «الرحلة المستمرة»، وهي التي استحدثها الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن أثناء الحرب الأهلية الأمريكية.. في تلك الحرب، ساندت بريطانيا قوات الولايات الجنوبية ضد الحكومة الشرعية في الشمال، التي كان يرأسها لنكولن. وكانت بريطانيا تشجع عناصر من الإنكليز للذهاب من بريطانيا لدعم ثوار الجنوب، بالذهاب في البداية بحراً إلى جزر البحر الكاريبي، ومن هناك يذهب المتطوعون إلى الولايات الجنوبية؛ أي أنهم كانوا يقسمون رحلتهم الى جزئين: الأول ينتهي في الكاريبي والثاني ينتهي في الولايات الجنوبية فأمر لينكولن البحرية الأمريكية بضرب البواخر التي تحمل هؤلاء المتطوعين. وحين قيل له إن هؤلاء «مدنيين» قال لهم إن رحلتهم لا تنتهي في الكاريبي، بل هي مستمرة إلى أن تنتهي في الولايات الجنوبية، ومن هنا جاء اسم المبدأ «الرحلة المستمرة». وهكذا تَمّ استهدافهم من قبل البحرية الأمريكية. ومن الطريف، أن بريطانيا لم تقدم أية احتجاجات للولايات المتحدة على تصرفها بمقولة، إن هؤلاء من المدنيين الذين لا يجوز استهدافهم، وكأن بريطانيا صادقت على التصرفات الأمريكية.
وقياساً على ذلك، فإن المستوطن لم يأت إلى الأرض المحتلة كسائح- مثلاً- بل هدفه النهائي أن يكون جزءاً من حركة استيطانية مسلحة ومرتبطة بجيش الاحتلال، ويقوم بحماية المستوطنة التي يقطن فيها، وهي أداة العدوان الرئيسية باعتبار أنها اقيمت لتقطيع أوصال الوحدة الإقليمية الفلسطينية. أي ان رحلة المستوطن رحلة مستمرة، من حيث إنه ربما ابتدأها كشخص مدني يحلم بعقيدة مصطنعة، أو بمغامرة شبابية، إلاّ انه ينتهي في خدمة العدوان، من هنا فإن رحلته مستمرة، وبالتالي يمكن تطبيق مبدأ «الرحلة المستمرة» عليه. لذلك، كانت محكمة العدل الدولية على وعي تام بدور المستوطنين، حين طلبت من إسرائيل في قرارها الثالث الوارد في الرأي الاستشاري أن توقف «فوراً» كل عمليات الاستيطان و»أن تسحب جميع المستوطنين»، إدراكاً منها أن المستوطنين يشكلون جزءاً لا يتجزأ من كل العملية الاستيطانية مع ما ترتب على ذلك من إخلاء السكان الفلسطينيين من الأراضي التي ستقام عليها المستوطنة، واستخدام القوة والإرهاب الذي يمارسه المستوطنون على المدنيين، وعلى كل الأهداف المدنية، مثل قطع الأشجار وإتلاف آبار المياه وتدمير الطرق والآلات الزراعية، وأحياناً يلجأون إلى إحداث حرائق وقتل المواشي أو سرقتها. ولا بد من التذكير أنه يجب الحذر من محاولة بعض الدول، مثل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية في إدراج «بعض» المستوطنين على قوائم المنع من دخول أراضيها، أو فرض قيود على زياراتهم لتلك الدول، أو على حساباتهم المصرفية، بمقولات إنهم يرتكبون بعض الأعمال العنيفة ضد المدنيين الفلسطينيين. إن هذه محاولة لتبييض سلوك «البعض» الآخر من المستوطنين، بينما هم جميعاً جزء لا يتجزأ من أداة العدوان على الشعب الفلسطيني، أي أن الإيحاء بأن هناك مستوطنين «أخيارا» ومستوطنين «أشرارا» هي محاولة يجب فضحها والتنديد بها، ذلك أنهم جميعاً أدوات عدوان على الشعب وعلى وحدة أرضه.
من الواضح أن الرأي الاستشاري بعد أن قرر أن الوجود الإسرائيلي غير شرعي، طلب إخلاء الأراضي المحتلة من سلطات الاحتلال وما رافق قيام تلك السلطة من مستوطنات ومستوطنين، إذ لا يعقل أن تستمر المستوطنات والمستوطنين بعد إنهاء حكم الاحتلال، ويجب أن نذكر أنه حين انسحبت إسرائيل من داخل غزة، ودمرت المستوطنات في عام 2005، أبقت على الركام فى الأراضي المحتلة ورفضت تنظيفه، ما حال دون استفادة الفلسطيني من الأراضي التي كانت تقام عليها تلك المستوطنات. وقد قدرت تكاليف إزالة الركام حوالي ستة ملايين دولار أمريكي، وهو مبلغ كبير نسبياً. ومن هنا يجب الانتباه إلى أن إزالة المستوطنات يقتضي إعادة الأرض إلى ما كانت عليه قبل بناء المستوطنات، بما في ذلك إصلاحها لتعود قابلة للزراعة.
إن الإصرار على إزالة المستوطنات أمرٌ في غاية الأهمية لممارسة حق تقرير المصير، ذلك أن المستوطنات أقيمت بقصد تقطيع أوصال الوحدة الإقليمية للأراضي المحتلة. وتجدر المقارنة بين المستوطنات اليهودية التي أقيمت في الأراضي المحتلة، والمستوطنات التي أقامتها إيطاليا في ليبيا في ثلاثينيات القرن الماضي، والأخيرة أقيمت لأغراض زراعية واستجلاب المستوطنين الطليان، والغالبية العظمى من المستوطنات أقيمت حول مدينتين هما بنغازي وطرابلس ولم تستهدفا الوحدة الإقليمية للأراضي الليبية، بينما أقيمت المستوطنات اليهودية لأغراض سياسية استعمارية، وهذا مبدأ ثابت في عمليات الاستيطان الصهيونية منذ بدء العملية الاستعمارية في فلسطين. إذ أن المستوطنات الصهيونية الأولى أقيمت، على حدّ تصور يغال آلون، لكي ترسم حدود الدولة اليهودية. ولم يكن هذا ما قصد إليه الطليان في المستوطنات في ليبيا. إن استعادة التكامل بين اجزاء الأراضي الفلسطينية المحتلة عملية حيوية لكي يتمكن الفلسطينيون من إقامة دولتهم على إقليم واحد موحد.
محام وكاتب فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب