عبد اللطيف اللعبي وياسين عدنان في «أن تكون فلسطينياً»: أنطولوجيا الشعر الفلسطيني الراهن

عبد اللطيف اللعبي وياسين عدنان في «أن تكون فلسطينياً»: أنطولوجيا الشعر الفلسطيني الراهن
المثنى الشيخ عطية
مثلما فعلَ محمود درويش في الانقلاب على شعره الأول الذي تمثّله قصيدة «سجّل أنا عربي» الشهيرة، ودَفَعَه إلى عدم تضمين الكثير منه في أعماله الكاملة، بسبب حصر تصوّر الفلسطيني باللاجئ والمقاوم فحسب، من قبل قارئ سياسي انطباعي ساعده هذا الشعر نفسه على حصر التصوّر.
ومثلما فعل إدوارد سعيد، في مساهمة إخراج صورة الفلسطيني الأحادية من هذا الإطار الضيّق جداً عليها، بكتابه «بعد السماء الأخيرة» الذي أخذ عنوانه من قصيدة درويش، وكتب في مقدمته عن توسيع الإطار أن «الصورة التي تُستخدم في تمثيلنا لا تقوم إلا بإنقاص حقيقتنا الفعلية أكثر. وعند الكثيرين لا يُرى الفلسطيني أساساً إلا في هيئة المقاتل أو الإرهابي أو المطارَد».
ومثلما يفعل الفلسطينيون حقيقةً في واقع حياتهم؛ يفعل هذا عبد اللطيف اللِّعْبي بمشاركة عدنان ياسين في إنجاز «أنطولوجيا الشعر الفلسطيني الراهن»، كما سمّياها في ملحق عنوان كتاب «أن تكون فلسطينياً»، وضمّناه مختاراتٍ شعريةً لـ26 شاعرةً وشاعراً فلسطينيين معاصرين، مع التعريف بهم. وأفادا قرّاء الشعر بمعرفة تجاربهم بعد أن كانت التجارب محصورةً بالشاعر النجم، الذي تشظَّى إلى نجوم من الضرورة لمّها، في سماء عصر التواصل الاجتماعي التي لا تُحدّ.
وفي توسيع الإطار، برّر اللِّعْبيّ في مقدمته للكتاب، إنجازَ هذا العمل بأسبابٍ مباشرةٍ تتلخّص بـ: «الصّمت الذي يلفّ لسنوات عديدة مصير الشعب الفلسطيني»، والمساهمة في: «وضع حدّ لهذا الصمت، والتنديد عالياً بإنكار الحقّ وبتنظيم فقدان الذاكرة، وكذا بمنح الصوت من جديد للَّواتي والذين يعيشون اليوم في ظلمة الطريق المسدود».
وأسبابٍ غير مباشرة تتلخص في:
ــ ضمان مناصفة دقيقة بين النساء والرجال عند اختيار الشاعرات والشعراء.
ــ إقامة الدليل من جديد على أنه في اللحظات الأشدّ صعوبة في تاريخ شعب ما، يكون الشعراء في الموعد، ويقدمون أحسن ما لديهم.
والأهم الذي يكشف خروج فلسطين من إطار صَدَفتِها لؤلؤةً كرويّةً لا تحدُّها حوافٌّ، بقصائدِ شعرائها الذين تخَطَّو أحادية التصور، وجعلوها «حيّة ملموسة، يُبرزون تفاصيلَ جسدها وروحها، وديدَنها اليومي، العاديّ منه والضارب في الوحشية. وينتزعونها من مخالب الأساطير التي تقيِّدها، ليجعلوها في متناول أفهامنا وحسّ العدالة لدينا».
إضافةً إلى ما أضافه اللِّعْبي من كشفٍ بتحليله لأعمال الشعراء، و«اكتساب الخاص لديهم بعداً طبيعياً كونياً»، مع كشفِ «فرادة منجم الشعر الفلسطيني المعاصر»، وتميّزه: بتعدّد الأصوات المذهل، وبـ: «قيادة الأصوات النسائية للأوركسترا، وقلبِها للطاولة، بكسر أكثر التابوهات انغراساً في الذهنية العربية الإسلامية المحافظة، وهي تتحدّث بصراحة عن الجسد، والرغبة وأنواع الحرمان، وبإعطائها رؤيتَها، غير المسبوقة طبعاً، عن الجنس وأحاسيس الحب».
كونيّة أن تكون فلسطينياً:
في إهدائهما النبوئي الذي تَصدّر الكتاب: «إلى شهداء غزة»، حيث نُشِر قبل انصباب نار الجحيم على البشرَ والحجر، بأعتى أسلحة البرابرة النازيين الجُدد، بعد قيامة ما عرف بـ «طوفان الأقصى»؛ وفي تناغم عنوان كتابهما المختار «أن تكون فلسطينياً»، يتجلّى الذكاء والإدراك العميق للأبعاد الفنية والنفسية في اختيار اللِّعْبي وعدنان لهذا العنوان، من قصيدة الشاعر أشرف فياض. أولاً: بتماثل حياته وقصيدته، في كونه ابن غزة الذاهب للعمل في السعودية، وصاحب مجموعة «التعليمات بالداخل»، التي اعتمدها القضاء السعودي للحكم عليه أولاً بالإعدام على تهمة «التعدي على الذات الإلهية ونشر أفكار الإلحاد»، ثم التخفيض إلى ثماني سنوات، تحت الضغط العالمي لإطلاق سراحه.
وثانياً: بتمثيل قصيدته حياةَ الفلسطيني، وصورَ فلسطين المحيِّرة التي تراكمت مآسيها بما فاق ما جرى على طروادة الأسطورية من مآسي الحرق والتشريد، في ضمير العالم.
وثالثاً: بتمثيل العنوان قصائدَ الشاعرات والشعراء المرافقين، ليكون الكتاب متناغماً في أبعاده الفنية والمعنوية، حيث:
«أن تكون بلا وطنٍ/ يعني بالضرورة أن تكون فلسطينياً/ أن تكون فلسطينياً/ لا يعني إلا أن يكون العالم كلُّه وطنَك/ لكنّ العالم لا يستوعب هذه الحقيقة/ شأنها شأنُ الكثير من الحقائق الأخرى/ أن تعتاد الموت/ أن تبتلع الألم بسهولة/ أن تخسر كل شيءٍ/ أن تمتنع عن البكاء/ أن تكون كائناً مطاطياً وشفافاً ومعتماً/ وغيرِ مُنَفِّذٍ للضوء/ ولا يمكن رؤيتك بالعين المجرَّدة/ ولا تحت المايكروسكوب/ ولا بالمرصد الفلكيِّ/ وتشعر بأنك مرفوض من العالم بأسره/ وأن مطالبتَك بحقِّكَ الإنسانيِّ رفاهيةٌ كبرى/ لا يستطيع العالم توفيرها لك».
ومثلما لا يمكن لمراجعةٍ نقديةٍ محدودةٍ بشرطها أن تعوّض قراءة كتاب يضم 65 قصيدةً؛ تكتفي المراجعة بالإشارة إلى تشابه قصائد شعراء الأنطولوجيا في انتهاج أسلوب قصيدة النثر فيما عدا واحدة منها، واختلاف أساليبهم، بما توفره لهم هذه القصيدة من إمكانيات الاختلاف والتعدّد. ومن حرّيةٍ لا تقسرها الأوزان والقوافي على الجريان في غير سواقيها، ومن فتح آفاق الكتابة الآلية السوريالية في مشابكاتها الحلم وبلوغها أعماق النفس، ومن عبثٍ مدهشٍ في السخرية المرّة وقلب المفاهيم، ومن قدرات مصقولةٍ بالموهبة على التركيب المتشابك للجمل الشعرية وتوليد قفلات الإدهاش.
وقد يكون مفيداً فقط، للتحريض على قراءة هؤلاء الشعراء في الأنطولوجيا، وفي مجموعاتهم، إيجاز بعضٍ مما أمكن قطفه من تجاربهم:
ــ رجاء غانم: بمزجها الأرض وكائناتها في عملية الحب، تحت حدّ سيف شرائع القبيلة حيث: «تمرّ يداك على نهديَّ/ يتأوّه العالم/ ويسيل حليبُ الأمّهات/ وأسمعُ صراخ ألفِ طفلٍ/ خرجوا للتوِّ من الرَّحِم». وحيث: «امرأةً مسكونةً بالحب كنتُ/ امرأةً مشتْ بقدميها العاريتين/ فوق خرائط لا تعترف بمعجزةٍ/ وتخاف أن ترجع إلى القبيلة/ هناك حيث تلمع عيون الرجال/ بثأرٍ/ وتنتظرها/ أربعون جلدةً».
ــ أشرف الزغل: بالسخرية المُرّة والغضب المعبّر عنه بها، في مواجهة فعل الطبيعة أو فعل البشر، بالتساؤل عن «أيهما أوحش؟/ خروج جرذان الأرض/ لتنذر بالكارثة/ أم بقاؤها في جحورها/ من أجل اختصار المسافة/ بين النبي والمعجزة؟».
ــ أنس العيلة: بتصوير الفجيعة والأسى المرّ، باستخدام التفاصيل الصغيرة غير المنتبَه لها، وإعادة إحيائها، بذكرى ينبض بها عالمٌ ضائع، حيث الأم الراحلة و«الرفوةُ في ساق بنطالي القديم/ بقيتْ إرثاً حيّاً/ ليديك الماهرتين/ بخياطة التمزقات الصغيرة».
ــ جمانة مصطفى: بقصيدة الفكرة النابضة التي تقلب المفهوم، في مقاومة الذكورية، ببيع المخالب للنساء المجروحات: « لديَّ هنا مِخلبٌ للقتل/ مخلب للهتك/ مخلب للجَرح/ مخلبٌ لفتق الجروح/ ومخلب للَّظم فوق قبور الأحبة».
ــ نجوان درويش: بالتدوير الذي يخلق التأثير، والإدهاش بتداخل جمل لا تمتّ ظاهراً لبعضها بصلة، في قصائد قصيرة، وفي دوران يساعد على محو القلق، حيث «يسحرني هذا القديس النائم في الحجر».
ــ مازن معروف: بترميم الذات، وقلب المتعارَف عليه إلى ضدّه، لتكبير حقيقة ما عليه، والختام بتدوير القصيدة مع الإدهاش، حيث «لم يعد لي أعداءٌ على هذا الكوكب/ لذا/ سأمضي»… «باتجاه ساحرات/ يمشطن شعورهنَّ بنافذة مكسورةٍ/ تطلُّ على كوكب سابق/ لا أعداء فيه».
ــ رولا سرحان: بتأكيد الذات، ومحو المعيقات، والمخالفة بالقطعة الشعرية المتآلفة، حيث «أود أن أحرّر الكذبة/ بإعطائها جناحين لتختفي من أمامي».
ــ هلا الشروف: بالشعر رفيقاً يحيل إلى كونه، والتمسك بالمكان حتى يكون الكون المكان، حيث «يا له من مكانٍ هنا!»… «يا لي من مكان».
ــ غياث المدهون، باستخدام فلسفات العلم حول الواقع الافتراضي، في كشف مآسي الحرب، بأسلوب قصيدة نثر القطعة، واللعب على المتناقضات في كشف تراجيكوميديا الوضع السوري، حيث «انتهت الحرب، وعاد القتلى إلى أهلهم سالمين، عاد الشهداء إلى أمهاتهم كاملين، عادت الأمهات إلى البيوت».
ــ مروان مَخّول: باللعب على المتناقضات، في كشف العيش تحت ظلال المحتل، حيث «الغراب الأسود في الثلج أجمل/ من كل حمام السلام الذي/ في خطاب السياسيين».
ــ خالد سليمان الناصري، بخلق الاستيهامات والتساؤلات لكشف كينونة الشاعر، وحركة الشعر بداخله، والوصول إلى إدراك أن الشعر لا يدرك، حيث «كلما مددتُ يدي لأمسك بك/ تسقط من يدي حاسّة اللمس».
ــ أشرف فياض: بمعاني أن تكون فلسطينياً.
ــ مايا أبو الحيات: بمواجهة واقع الاحتلال والتخلف، والبحث عن العدالة ومخرجٍ غير الهرب، حيث «لم يفكّر أحدٌ بعد/ بإذاعة نشرة الأخبار الأخيرة/ إقفال القنوات الدينية/ تشميع المدارس/ وقف التعذيب».
ــ كوليت أبو حسين: بوضعها مرآة ضخمة أمام القارئ، يرى فيها نفسه قابيل وهابيل، حيث «نحن سلالة القاتل/ عمومة القتيل/ ورثة الذنب/ وتلامذة الغربان/ في الأرض الخراب».
ــ رائد وحش: بالملاحظة الدقيقة للتفاصيل الذهنية، وتجسيدها بما يدهش، في قصائد غياب، تبدأ بـالشخصي وتمرّ بعذابات الآخر/ السجناء، وتصل إلى: «نحن الغائبين بعد قليلٍ/ تعلَّمْنا من السابقين/ ألّا نترك أثراً/ وسنعلِّم اللاحقين/ ألّا يأتوا».
ــ هند جودة: بقلب الصورة عن الأشياء المعينة، الماء والسكر والمرأة في التساؤل عن فعلها حين تشعر بالملل، مثالاً، ومجازاً لرؤية ما خلف الأشياء، وتوليد الاحتمالات، حيث «أريد أن أخبز كعكعةً/ ولا سكّر في المدينة!».
ــ طارق حمدان: بكشف ما يخبئه الفرح لدى اللاجئ في أسئلته الشعرية، بعد حصول فلسطيني فقد بيته على الجنسية الفرنسية، والتساؤل عن معنى البيت بـ«ماذا يعني أن تحصل على بيت/ بعد أن تُحرم من بيتك؟».
ــ أسماء عزايزة: بالاعتراف بالعمى والصمت عن رؤية الجريمة والندم على ذلك. في تداخلها مع الشاعر الراحل أمجد ناصر: «الوحيد الذي تلفّتَ إلى الوراء/ ولمح وجهه/ بينما مثلنا/ أنا وهذه الجموع مفرغة المحاجر».
ــ داليا طه، بأعمالها «أقل مجازاً، شرفة ولا أحد، وسيرة سكان مدينة ر»، التي تخاطب بها الرجل الضيف بليلته الأولى على الأرض، كما لو كان الإنسان نفسه، الناجي من الطوفان، عائداً ليكرر ما فعل في دائرة توجه إدراك القارئ إلى ما فعل.
ــ نداء عوينة: بكشفها عالم النساء الآبقات، بقوتهن ورغائبهن وخوفهن وضعفهن. «النساء اللواتي لا يذكرنا أحد/ اللواتي كن دوماً قويات». وبقصيدة التفعيلة الوحيدة في المختارات.
ــ أمينة أبو صفط: عنها، كمثال عن النساء العاديات، في خطابها لرجل، بسرد السيرة، وتوليد المفاجأة.
ــ هشام أبو عساكر، بالتساؤلات لمعرفة « كيف ينجو الرب من لعبةٍ/ اخترعها بنفسه؟»، ومخاطبة الروح: «إن كان لا بد من نهوض فانهضي هنا». ومخاطبة العبد: «يا عبد، لا تكن صورةً، كن تهشَّمَها. ولا تبصر إلا عتَمتك فيك، كن محيطها، افضحها، يا عبدُ، لئلا تظل عبداً».
ــ حسن مخلوف: بمداخلة الحياة ببعضها للخروج بالاختلاف، ومداخلة بداية القصيدة بنهايتها للخروج بالدهشة.
ــ رزان بنّورة: بكشف القسر والاختيار والقصيدة بتداخل الكائن وخارجه، والنفاذ من رفض القسر إلى اختيار الطازج، بروح السخرية، والعبث، حيث: «أرسلني الله إلى هذه الحياة/ قسراً/ لم يسألني عن رغبتي في ذلك/ أكلت التفاحة/ عمداً/ لأقول له/ يا ربُّ/ اختياراتك/ لا تعجبني».
ــ إيناس سلطان: بالعبث والسخرية من الحياة العابثة بنا.
ــ يحيى عاشور: بالعبث والسخرية وتحرير الإرادة عن إرادة الأهل، في عالم يعاني القصف اليومي.
عبد اللطيف اللعبي وياسين عدنان:
«أن تكون فلسطينياً»
منشورات المتوسط، ميلانو 2022
188 صفحة.