ثقافة وفنون

«ما بعد…» لمها حاج: استحضار الكارثة بنكرانها

«ما بعد…» لمها حاج: استحضار الكارثة بنكرانها

سليم البيك

عاش الفلسطينيون من التروما مرحلةً واحدة في تاريخهم المعاصر، التالية مباشرة للنكبة، يمثّلها عقد الخمسينيات. صمتَ الفلسطينيون خلال فترة ما بعد الصدمة هذه عن الكلام. ابتلع اللاجئون فجأةً، كلامهم الذي تراكم وخرج صرخةً مع الاندلاع المتدرّج للثورة.
قد لا يختلف اثنان في أن الحاصل في قطاع غزة اليوم، نكبة ثانية، أو إبادة أولى، أو استمرارية للنكبة على شكل إبادة. تساءلتُ وناقشت على هذه الصفحات مراراً خلال الأشهر العشرة الأخيرة حول طبيعة السينما الفلسطينية ما بعد حرب الإبادة. لم تنتهِ الحرب، وكانت إجابة السينما لحالتها وصورتها في العلاقة مع قطاع غزة، بيّناً في الفيلم القصير لمها حاج «ما بعد..» المشارك في مهرجان لوكارنو السينمائي هذا الشهر، ونال فيه الجائزة الأولى (الفهد الذهبي) في مسابقة الأفلام القصيرة للمؤلف – Pardi di Domani: Concorso Corti d›Autore.
موضوعان تجنّبتهما السينما الروائية الفلسطينية في عمومها: غزة والنكبة. من بين أكثر من خمسين فيلماً روائياً طويلاً لفلسطينيين، حضر الموضوعان بوصفهما رئيسيين في أفلام تُحصى على أصابع اليد. هنا، في «ما بعد..» استبقت مها حاج النقاشَ في موقع الإبادة المرتقَب ضمن هذه السينما، وإن بفيلم بنصف ساعة، واستعادت غزّة في أجمل وأنقى حضور للقطاع على طول التاريخ السينمائي الروائي الفلسطيني. حسم الفيلمُ الإجابة بالإيجاب، نعم يمكن للإبادة أن تكون موضوعاً رئيسياً لسينما الفلسطينيين، ويمكن للقطاع أن يحضر بشكل ومضمون يستحقّهما.

في «المستقبل في مكان ما» كما يُستهلّ الفيلم بافتراض أن واحدة من الحروب على غزة صارت تاريخاً بوصفها حدثاً، إنما حاضرة وبقسوة بوصفها حالةً نفسية للشخصيات، بفعل التروما، التي حلّت محلّ أولاد وبنات خمسة أتت عليهم غارة إسرائيلية قبل عشرين سنة. الأب والأم في عمر متقدّم، في بيت ريفيّ، محاط بالحقول والجبال، مسوَّر بالغيوم والأمطار في الخارج، والجدران والعتمة في الداخل. صمتُ الكوارث يخيّم خارجاً وداخلاً، ولا تكون أحاديثهما سوى محاولات استعادة نكرانيّة للكارثة، استحضارها لنفيها. هي محاولة التكرار في هذا التخيُّل، أو ذاك، لهذا الابن وذاك، لعلّ واحدا من حواراتهما يصدف أن يكون، بالخطأ، واقعاً لكابوس متربّع على واقع الوالدين.
لا يحكي المكلومان سوى عن أبنائهما وقد كبروا وانشغلوا كل واحد في حياته المهنية والشخصية، كأن لا كارثة أتت على خمستهم في ليلة واحدة. لم تحصل الكارثة في أذهان الوالدين اللذين تركا المدينة وانفصلا عن سياق الكارثة زماناً ومكاناً، وقرّرا حمل أطفالهما، أو أرواح أطفالهما وقد كبرت وطارت وتزوّجت وهاجرت.
استند الفيلم في مقاربته على اللقطات البديعة للفيلم الأسبق لمها حاج، «حمى البحر المتوسط» لقطات صامتة لأمكنة ما زالت حاضرة وشاهدة منذ النكبة، كأنّ لا نكبة حلّت بها ولا استعمار أتى عليها، كأنّها موج قصير ومطر صغير، وبينهما مقعد متهالك، كأن المقعد والصخور الصامتة منذ الكارثة من حوله، كالوالدين المتآكلين الهرمين المكمّلين حياتهما على أن لا أطفال خُطفت أرواحهم منهما.
«ما بعد…» يكمل شاعرية أنهت فيلمَ مُخرجته الأسبق، واستحقت مقاربة الكارثة التي تكون، في أشد حالاتها ثقلاً على القلب، سينمائياً، متى صُوّرت بآثارها على الإنسان وأمكنته وأزمنته وذاكرته، لا متى صُوّرت فجّةً براهنها مكاناً وزماناً كأنها تحقيق توثيقي.
اعتناءٌ ألفناه في أو فيلم لحاج، «أمور شخصية» وعَلا في فيلمها الأسبق، في السيناريو وحواراته، في الصورة وألوانها وأبعادها، وكانت هنا، لطبيعة الفيلم القصير متى امتاز، مكثّفةً أكثر لتحيط الصورةُ بالحوار وتكمّله بالصمت المتوزّع على طول الفيلم. ما يجعل «ما بعد..» مثالاً جمالياً أزاحَ الوحشية جانباً وكشفَ عن آثارها، تكون الوحشية بذلك متخيَّلة، تفوق العمل الممارَس الذي تعوَّد أحدنا مشاهدته، قصفاً وأشلاء وركاما. الخيال وحسب هو الأقدر على موازاة تجربة الكارثة في ما بعدها.
حالة «الما بعد» التي احتمى الوالدان فيها بالنكران، هي التروما التي ما قَدر الأهل عليها، هي ذاتها التي استحضرها الفيلمُ موضوعاً له، ناقلاً مضمونَه إلى واقعه، ليكون هو ذاته، الفيلم، رداً على ما بعد الحرب الإبادية التي بدأ الفلسطينيون، في هذا الفيلم، يتّخذونها موضوعاً سينمائياً كي لا تتكرر تروما الخمسينيات، وإن تكرّرت الكارثة وكان للنكبة اسم إبادة.

كاتب فلسطيني/ سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب