«إسرائيل فلسطين على التلفزيون السويدي»: الأرشيف بوصفه صديقاً
سليم البيك
الأرشيف مادة خام، لن تكون حيادية متى عولجت، متى انتُشلت من صناديق مغبرَّة، وقد أُودعت فيها كأنها ميتة، فانفصلت عن راهنها. مادة خام يمكن بالمعالجة، بالمونتاج، بالصناعة السينمائية، أن تشي بالشيء وبضدّه، حسب الصانع.
يتساءل أحدنا، لذلك، إن كان ما يتعلق بالمسألة الفلسطينية مهما قدُم، أرشيفاً، وذلك لراهنية المسألة، وإبقائها حيةً بتواصُل غير منقطع لحالة الاستعمار، منذ بدأ بالنكبة، وباستمراريته حتى اللحظة. الأرشيف المتعلق بهذه المسألة إذن دائم المعالجة والاستحضار ومستقر الراهنية. هو ليس أرشيفاً إذن، بل مواد بأزمنة بعيدة وبموضوع راهن بامتداده.
ليست، إذن، المادة التلفزيونية التي صوِّرت في الستينيات مثلاً، أرشيفاً من تاريخ مضى لهذا الشعب، بل مادة أولية وسابقة لغيرها متصلة بها وحاضرة. ما يجعل من الأرشيف مواد سابقة زمانياً، لما هو متواصل، لم يطوها الزمن لتصفَّ إلى جانب غيرها في صناديق مغبرَّة.
لكن تقنياً، المادة هذه أرشيف، بغض النظر عن المقاربة التاريخية والسياقية لها، وهذا ما بنى عليه المخرج السويدي غوران أولسن، فيلمَه المشارك خارج المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي الأخير، «إسرائيل فلسطين على التلفزيون السويدي 1958-1989» (Israel Palestine on Swedish Television 1958–1989). مشاهد ولقطات امتدت منذ بدء بث التلفزيون السويدي بمبعوثيه ومراسليه إلى فلسطين، حتى نهايات انتفاضة الحجارة وبدايات اتفاقيات أوسلو. بنى الفيلم من خلال المشاهد هذه سرديةً حافظت على حياد نسبي، نسبي جداً، لمأساة الفلسطينيين وملهاة الإسرائيليين.
حساسية المونتاج، وما قبله الانتقاء، كانت واضحة، في اتزانٍ ذكرَ الفيلم أن التلفزيون السويدي حاول الحفاظ عليه، بمسافة تسمح بموضوعيته تجاه طرفي الصراع، وواصل الفيلم ما بدأه التلفزيون، ما سيكون، لمُشاهد فلسطيني أو متضامن معه، نوعاً من الفوقية والنأي غير الأخلاقيين، فإن كان الأرشيف مادة خام، رمادية منفصلة عن أي استخدام واعٍ لذاته ومواقفه الفكرية والسياسية، ومنسية في الصناديق وتحت الغبار، هذه المادة متى أُحيت مجدداً، وصُفَّت بمونتاج من أجل سردية لفيلم يحاول إظهار وقائع استعمار استطياني، لن تبقى محافظةً على حيادية الميّت. الأرشيف متى أعيد بشكل ممنتَج، تخلى عن حياديته التي اكتسبها متى نُسي في الصناديق.
ولأن الحيادية غير الموضوعية، ألا تعني الموضوعية، أو محاولة نقل السرديتين بالتساوي، في نقل تلك الوقائع، أي الحقائق كما يمكن الاتفاق على حدّها الأدنى، ألا تعني انحيازاً للمستضعَف والمستعمَر؟ بكلام آخر، يكفي الفلسطينيين أن ينقل غيرهم ما حصل بموضوعية لتَظهر مظلوميتهم. يكفي أن يمسك كلٌّ من الفلسطيني والإسرائيلي المايكروفون أمام الكاميرا، ليفصح كل منهما عن روايته لما حصل وما يحصل، حتى يكون الفيلم، في مجمله، شهادة أَحيت أرشيفاً، لمأساة هؤلاء وملهاة أولئك، للحالة الوثائقية للفلسطينيين (الوقائعية) وتلك الخيالية للإسرائيليين (الخرافية) حسب جان لوك غودار.
الفيلم الممتاز والطويل (قرابة 3ساعات ونصف الساعة) والمتضامن فقط مع وقائع يمكن أن يرى أحدنا فيها موضوعية ما، ويمكن أن يرى إجحافاً ما، وكلاهما حاضر، ينقلُ الفيلم من حيث لا يدري أو يقصد، باقتراب قدر الإمكان من الوقائع، مهما تشوّشت هذه الأخيرة بالانتقاءات من بين الأرشيف الضخم، والمونتاجات، ينقلُ سيرة فلسطينية من وجهة نظر لا أقول غربية بل إسكندنافية، من دولة جانبت الحياد منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ما حاوله تلفزيونها كما يبين الفيلم في أوّله.
لا تبقي إذن الانتقاءات والمونتاجات على المادة الخام حياديتها. فكما أن الانتقاء بحد ذاته، فعلٌ يحدّ من الحيادية، ويهدد الموضوعية، فإن المونتاجات، بتحرير هذه الأرشيف وتقطيعه ولصقه، هو بحد ذاته محو للحيادية واستهلال لسردية الصانع، ولحسن حظ الموضوع أن لصانع هذا الوثائقي أعمال سابقة تشي باهتماماته ومواقعه ضمن هذه الاهتمامات. هي مواضيع في الاستعمار وعنفه، والنضال للتحرر منه، وفي حركة نضال السود في الولايات المتحدة، وفي الموسيقى والفنون البديلة، في المجتمعات المهمَّشة، وفي العنصرية.
الفيلم المتشكل من مشاهد ومقابلات وتقارير خاصة بالتلفزيون السويدي وأخرى لوكالات، لم يرَها أحدنا من قبل، لكنفاني وعرفات وآخرين من القيادات ومن أهالي المخيمات، ومن الفدائيين، وكذلك لآخرين صهاينة على الطرف الآخر من الصراع، مال الفيلم، بقدر موضوعيته، إلى جانب المستعمَر، فبحصّة كلام منصفة بين المستعمِر والمستعمَر تكون الغلبة للأول. الحصة والكلام والساحة تكون عادة بانفراد للمنتصر، لقوة الاستعمار المسيطرة بالعنف. هنا، بتوازي المساحات للطرفين، بان الاستعمار، وبتقابله مع كلام الفلسطينيين الواعي والثوري والهادئ والمحق والعادل، بان أكثر على بشاعته.
أعود إلى فكرة أن للمُشاهد الفلسطيني ملاحظات ضرورية وجوهرية حول الفيلم، تحديداً أن لا مساحة كافية كانت للوجود الفلسطيني ما قبل النكبة وخلالها إلى اندلاع الثورة. لكننا نعرف أنها مرحلة تروما، صمتٌ واختفاء فلسطيني سيأتي عليهما الصوت والصورة العاليين للثورة في الستينيات. حينها، بدأت نسبة الحضور الفلسطيني تكبر في هذا الوثائقي الذي ركّز على سردية إسرائيلية في بداياته، نهايات الخمسينيات حتى عام الهزيمة العربية والاندلاع المتدرج للثورة الفلسطينية.
في وقت كثرَ كلام الإسرائيليين عن الأرض الموعودة والحلم بلم شتاتهم فيها للنجاة من المحارق، وغيرها من تلك الخلطة من الأساطير الدينية والالتواءات والخرافات التاريخية، كثرَ كلام الفلسطينيين في كون نضالهم للتحرر والعيش بسلام وعلى أرضهم في بلاد بلا امتيازات دينية أو عرقية. كلما وضحت الحقائق في وثائقي، علا فيه صوت المستضعَف.
كاتب فلسطيني سوري