ثقافة وفنون

دردشة مع يسري الغول: لماذا لم تنزح إلى الجنوب؟ حاوره زياد خداش:

حاوره زياد خداش

دردشة مع يسري الغول: لماذا لم تنزح إلى الجنوب؟

حاوره زياد خداش:

تربكني الحوارات مع أدباء غزة، أفكر في السؤال ألف مرة قبل أن أكتبه، وأتخيل الكاتب وهو يقفل الهاتف في وجهي شاتماً أو ساخراً، إذ ما جدوى أن تسأل كاتباً يزاحم طابوراً طويلاً على رغيف خبز: هل تفكر في مكتبتك مثلاً، أو هل تتوقع تغيراً في بنية النص؟ لكن في المقابل حين أتذكر أني أحاور كاتباً غزياً، أتشجع وأمضي في أسئلتي، فالغزي واقعي إلى درجة الألم، وهو يحب أن أتعامل معه بشكل طبيعي بعيداً عن الحذر والخجل، ولديه القدرة على الإجابة عن أنواع الأسئلة حتى تلك الغبية.
يسري الغول اللاجئ في مخيم الشاطئ ليس كاتباً عادياً، وهو سارد خطير ظهرت الحرب بهيئتها الجحيمية في آخر رواياته، (ملابس تنجو بأعجوبة).
هذه دردشة معه:

* مَن أول شخص ترغب في مقابلته بعد الحرب؟

– الحياة الحياة يا صديقي.

*تحدث مع بيتك يا يسري
– بيتي يا زياد، هو بيت الأحلام، وكل شيء فيه ذو لسان وينطق، الجدران واللوحات والأسِرّة والأثاث، حتى البلاط ينطق، لكنهم قطعوا ألسنتهم وسكتوا للأبد.
هل تعلم من هو بيتي يا زياد؟ هو خربشات أطفالي ومكتبتي، كنتُ أدّخر لأشتري لها الكتب، اغتالوا خربشات أطفالي ومكتبتي، وشجرة التين التي آكل منها في كل صيف.
كنتُ أعتقد أن الحرب ستنتهي عندما أرى بيتي بخير، لمّا وصلتُ البيت ورأيته ميتاً قلْت: انتهت الحرب بموت يسري، لأن بيت يسري مات.

*سأكرر ما قالته طفلة جريحة من غزة: هل هذا حقيقي، هل نحلم؟
– لا أعرف متى نصحو من الصدمة، لا أعرف ماذا سيحدث بعد أن نصحو من الصدمة. قبل الحرب، كنتُ أسأل نفسي وأنا أشتري دجاجة غداء يوم الجمعة، بماذا تفكر الدجاجة وهي تنتظر ذبحها؟ الآن أسأل: متى دوري أنا لأُذبَح؟ كلنا يا زياد ننتظر ذبحنا المؤجل.

*هل يمكن أن ينسى الكاتب الغزيّ أنه كاتب في جحيم المجزرة؟
– صعب أن نكتب، أنا أسجل يومياتي لأنني أخشى على ذاكرة البصر أن تنسى الصورة لهول ما ترى كل يوم. ما نراه فوق الخيال، وما يراه الناس عبر الشاشات نقطة واحدة في بحر هذا الجحيم. أتعلم يا زياد، أعمدة البيت التي تحبني وتوشك أن تعانقني، لم تعد تراني ولم تعد تضحك.

*ما هو أخطر سؤال سأله أولادك؟ وبيتك خالٍ من الأبيض الضروري؟
– آخر سؤال سألني إياه ابني أسامة، هو ثالث إخوته، في الصف الثامن الابتدائي، قال لي: يابا، لو متنا الآن هل سأراكَ غداً؟!

*هل تفكر في المكتبة؟ هل طبيعي أن نفكر بالكتب ونحن نذبح؟
– أفكر بالهرب من الموت، أفكر بالنجاة من هذا الجحيم، بحياة هادئة، أجلس فيها أنا وأطفالي على طاولة الطعام، نتحدث عن ذكريات الحرب الأليمة وقد أمست مجرد ذكريات. المكتبة؟ أفكر بمكتبة صغيرة، فيها كتب لم يغبّرها التراب، ولم تمزقها الصواريخ.

*هل تتوقع تغيرات في بنية النص؟
– بالتأكيد، الكتابة الجديدة ستكون أكثر جموحاً وجنوناً من الخيال نفسه، وأن كل ما اعتقدناه وعشناه قبل هذه المذبحة، كان نقطة في بحر ما نعيشه الآن.

*مَن أول شخص ترغب في مقابلته بعد الحرب؟
– زوجتي، لأننا نعيش عزلة حتى ولو أننا قريبان من بعضنا. اليوم الكل تائه، كأننا سكارى، لا أحد يرى الآخر حتى الجالس جوارك. محرومون من أي مشاعر إنسانية، من الأبوة والبنوّة والأمومة، لا وقت إلا للتفكير بالموت، انتظار الموت، انتهاء الموت.
ولو كان لي فرصة أخرى لأقابل أحداً غير زوجتي، فأنا أتمنى أن أقابل الحياة. الحياة يا صديقي.

*هل تنام يا يسري؟ ما آخر حلم حلمته في ليل الجحيم؟
– ألم يكتب إبراهيم عبد المجيد “لا أحد ينام في الإسكندرية”؟ اليوم لا أحد ينام في غزة.
كيف ننام والموت يحدق بنا؟ كيف ننام ونحن مصابون؟ وإن لم نُصَبْ فإننا ننقل مصابين. إلى أين ننقلهم؟ إلى اللامشفى، لا يوجد مشافٍ يا زياد، حتى الشفاء القريب من خيم الشاطئ لم يعد موجوداً. حتى عربات “الكارو” حتى الحمير التي تجرّ العربات ماتت أو أصيبت.

*هل فقدت أصدقاء في الحرب؟ حدّثنا عنهم.
– يا صديقي!
فقدتُ المئات منهم، أنا أصاحب أي شخص، أصاحب أعمدة الإنارة والشوارع والأشجار.. هؤلاء أيضاً أصدقاء فقدتهم، كتّاباً وجيراناً وأقارب، استشهد من عائلتي أكثر من 220 شهيداً، ومن جيراني ربما 17 شهيداً، ومن زملائي ربما 20 شهيداً، وربما أكثر.
وحبيبي الكاتب نور الدين حجاج، طلبتُ منه أن يكتب وصيته، أرسلها إليّ ثم استشهد بعدها بأيام.
فقدنا كل شيء، نحن أصلاً فقدنا أنفسنا.

*هل تتذكر آخر عشاء طبيعي مع الأسرة قبل 7 أكتوبر؟
– آخر عشاء قبل 7 أكتوبر، هو عشاء ليلة 6 أكتوبر. كنت في حديقة البيت، تحيطني الزيتونة والليمونة والتينة، كنت أعمل سندويشات وأسمع أم كلثوم، وألعب شدّة “ورق” مع زوجتي.. هذا آخر عشاء هانئ.

*ما هو الشارع الذي تم جرفه، وتشعر بأن قلبك هو الذي جُرف؟
– شارع الرشيد، أحد أجمل شوارع مدينة غزة، كنت أركض بعد عصر كل يوم، حفاظاً على رشاقتي، أنا رجل أحب أن أظل “سمبتيك”. الشارع أصبح بلا معالم، مسحوا المقاهي التي يرتادها الشباب.. المنظر هناك كئيب، كله رمال وغبار. ومن كان يجري من أجل رشاقته، خسر من وزنه أكثر من 20 كيلوغراماً دون ركض، إنها المجاعة.

*هل ستعود غزة إلى وجهها الطبيعي؟
– غزة لن تعود إلى طبيعتها، وربما أكون جامحاً في خيالي وأنا أقول، إن غزة ستبقى مجرد أطلال، ولن يتمكن أحد من إعمار المدينة. وأنا على يقين أننا أمام خيارين، إما أن نعود إلى بلادنا، إلى القدس ويافا وحيفا واللد والرملة.. وإما إلى أوروبا، أو أي مكان آخر.
أما أن يعاد بناء غزة، فلا أعتقد أن يكون ذلك واقعياً إلا بعد نحو أربعين سنة. لذلك، غزة ستصبح متحفاً كبيراً.

*اسمح لي بسؤال غريب، ربما لأن لدي أشقاء من هذا الصنف. أنا قلق جداً على غزة البشر والحجر والشجر، لكن قلبي يبكي على المرضى نفسياً وذوي الاحتياجات الخاصة، أين ذهبوا؟ وماذا يفعلون؟
– كل شيء هنا بدا مريضاً نفسياً، ثمة من أصيب برهاب الباب، إن فُتِح الباب يخاف، إن أُغلِق الباب يخاف، إن عطس أحد نخاف. القصف جعل كل شيء وكل أحد يخاف من الموت ومن الحياة في آن، وأنت تمشي في الشارع ترى الصواريخ تستهدف مجموعة شباب يتكومون عند نقطة إنترنت، يحاولون الاتصال بالشبكة، تذهب لمستشفى يُقصَف، البيت يُقصَف، وأنت تشتري ما تيسّر من الحلوى، محلّ الحلوى يُقصَف. أما بالنسبة إلى “أين ذهبوا” كلنا في بيوتٍ تضيق علينا وإن اتسعَت، رغم أنها مفتوحة جدرانها جرّاء القصف.
ولا أعتقد أن ذوي الاحتياجات الخاصة يفعلون شيئاً، ماذا سيفعلون؟
مراكز الإيواء بلا حمامات، لأنهم استهدفوا الحمامات. تخيل! أربعمائة فرد في مأوى يستخدمون حمامين يا رجل!
أين خصوصية المرأة؟ أين طفولة الطفل؟ وأين يذهب ذوو الاحتياجات الخاصة؟ ما تراه في غزة هو أكذوبة العالم حول الحقوق، الطفل في غزة لم يعد طفلاً، ذاك الذي فاتته سنة دراسية كاملة، ينقل دلاء الماء، يلمّ الحطب، يشعل النار. المرأة في غزة لم تعد تأبه بجمالها وأناقتها كما باقي نساء العالم. الحقوق في غزة كذبة.

*ماذا تقول لطلابك في درس الكتابة في هذا الجنون المدمر؟
– لا طلاب لدي يا صديقي لكي أعطيهم درس الكتابة، أنا هذه الأيام أسجل يومياتي ومذكراتي وأبوح لنفسي، لعلّي إن لم أنج، ستنجو هذه الأوراق، لتكون على الأقل رسالة إلى العالم من شاهد على دمار المدينة.

*لماذا لم تنزح إلى الجنوب؟
– لم أنزح إلى الجنوب لأنني سأشعر بالخيانة إن تركتُ المخيم، أغيري موجود وأنا الذي أنزح؟
هل دور النخبة أن تهرب أول الناس؟ أم على النخبة تعزيز الصمود؟
المخيم هو عمقي الإستراتيجي يا صديقي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب