مقالات

مؤاخذات بالإدارة المتعثرة لمواسم الحج (2/3)

مؤاخذات بالإدارة المتعثرة لمواسم الحج (2/3)

بقلم: عزالدين مصطفى جلولي/ كاتب جزائري

في هندسة المسجد النبوي ما يقال
للهندسة في المسجد النبوي وحي من بني أمية والأندلس، الأعمدة والأقواس المستوحاة من النخل الباسقات تفيض على ناظريك أنى أرسلت عينيك. ولكن العرصات المرخمة بدت لي في التوسعة من الكثرة والسماكة كأنها تحجب الرؤية عنك لترى المسجد الأول الذي بناه الرسول (عليه الصلاة والسلام) وشهد وقائع التاريخ العظيم للأمة في مطلع الإسلام، إنها تسد بصرك فلا يمتد في الأفق إلا من خلال الأروقة العميقة، ذات الأقواس المخططة والأسطح المتشابهة التي تثير خيالك لتستذكر قرطبة ومسجدها الجامع. يأسرك المشهد بداية ثم تألفه مع كثرة الاختلاف إلى الحرم النبوي، فتنكفئ إلى مصلاك داعيا وذاكرا ومتفكرا.
ألا ترى أن القائمين على التوسعة أرادوا من هذه العمارة الهندسية ألا يفتتن الناس عما جاؤوا لأجله، وهم في ثاني مسجد تشد إليه الرحال وبجوار الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وروضه الشريف؟ الجواب نعم ولا بحسب السياق. المهم أني لاحظت مبالغة في الأعمدة المرمرية، التي ترفع عاليا كثرة كاثرة من الأقواس القرطبية. ولو أن المهندسين راعوا التنوع المعماري في الحضارة الإسلامية، وأجروا تمازجا في ما بينها ووزعوها على كل جنبات المسجد النبوي، لجاء بنيان المسجد آية في البهاء، ولجمع إليه كل ما أبدعته الشعوب المسلمة في الفنون المعمارية من جمال، تزيد إيحاءاتها الفنية الزائرين متعة، إضافة إلى الإيحاءات الروحية التي تغمر جوانحك بسلام موصول إلقاؤه أبد الدهر على أطيب من في الثرى نبي كريم وصدّيق وشهيد.

مشكلات دائمة في زيارة الروضة الشريفة
برمجة دخول الروضة للزوار يتم عبر الحجز في موقع “نسك”، وهو أمر مستحب، خاصة مع الأعداد الغفيرة للحجاج والمعتمرين، ولكن الحجز عبر الموقع لا يعمل أحيانا كثيرة، وأحيانا أخرى تبرمج لك الزيارة بتاريخ تكون فيه قد عدت إلى بلدك، يعني أنها فكرة غير عملية. وأحيانا تبرمج زيارتك مع مرافقيك بالرحلة في ساعة معينة، وتضبط القوائم مع مرشد البعثة في موعد يحدد له مسبقا. يحدث ألا يتم إعلام كامل الفوج به لكثرة العدد، فيتأخر عن الزيارة من شد لها الرحال، فيستغل غياب هؤلاء بعض رعايا الدول الأخرى لينظم إلى طوابير تلك الأفواج، فيقع المرشد والأمن السعودي في لبكة، العدد الزائد عما صرح به، والجهد الذي يبذل لفرز الدخلاء عن الأصلاء، تحت ضغط أفواج أخرى تنتظر دورها في طابور لا نهاية له.
لا ترى معظم الزائرين يحسن الاصطفاف أمام صاحب القبر الشريف اصطفاف الكتائب أمام قائدها. حق قول المصطفى (صلى الله عليه وسلم) في أمته، بأنها ستكون غثاء كثاء السيل، يغري حالها الأمم الأخرى لتتداعى عليهما كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. الغرب والشرق يتصارعان اليوم على قلب الأمة، وأهلنا في غزة يذبحون ولا ناصر لهم غير الله. لا يتنبه القائمون على الحرم النبوي بأن هنالك مشكلة في منهجية العمل، وفي الخطة المتبعة لتنظيم زيارة الروضة الشريفة، مع استعلاء بين على تعلم ما يلزم لإدارة مجاميع بشرية لن تتوقف عن زيارة روضة من رياض الجنة إلى يوم القيامة.

الكلف بجمع المال آفة حقيقية من حول الحرمين الشريفين
ما تنافس قوم الدنيا إلا أهلكتهم، إن الطمع في كسب المزيد من المال لا يجعل التجار يشبعون، يقام اليوم بجوار الحرم النبوي متحف السلام. المتاحف هي إحدى المرافق السياحية التي شرعت السلطات العليا للمملكة في التشجيع عليها، ولست أدري إن كانت الغاية من هذا الصرح وقفية تثقيفية أم أرباحا مادية؟ ستبدي لنا الأيام القادمة ما الذي وراء الأكمة من هذا الصرح المحاذي للحضرة المحمدية.
أقيم في أسفل ساحات الحرم النبوي مرأب سيارات فسيح، يستوعب آلاف السيارات في آن واحد. أجر هذا المرأب لشركة خاصة تستثمره، وتتولى إدارته وأمنه والقيام عليه. اللافت في الموضوع أن ركن السيارات فيه يستوجب دفع أجرة، وكلما طالت المدة ازدادت التكلفة. أي أن من يأتي الحرم النبوي بسيارته لأداء صلاة مكتوبة أو ليسلم على النبي (صلى الله عليه وسلم) يتطلب منه دفع مبلغ، ولا يهمنا إن كان المبلغ رمزيا أم كان معتبرا. المهم أن القاصد بيت الله الحرام أو المسجد النبوي الشريف لا ينبغي أن يعامل أخلاقيا وكأنه زبون جاء يتسوق ولا بد أن يؤخذ من كيسه، وإلا فإننا قد دخلنا طريقا يؤدي إلى فرض إتاوة على زيارة المصطفى في يوم من الأيام ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد رأيت في المدينة المنورة محلات تجارية يبعث أصحابها بسيارات إلى الفنادق لتجلب زبائن مجانا اشترى الزبون بضاعة من محالها أم لم يشتر. ثم إن مداخيل المملكة العربية السعودية، من الحج والعمرة ومن خارجهما، تغطي نفقات شعوب ودول، وليست السلطات بحاجة إلى أن تمد أيديها إلى جيوب الزوار، وفي خزينة الدولة فائض من أموال الأمة يبذر على مشاريع “التحديث”، التي تعني الفساد والترفيه والحفلات الماجنة.

الحاجة إلى تنظيم سقيا زمزم والاهتمام بالمعالم التاريخية
يقدم ماء زمزم للزائرين في الحرم النبوي في حاويات، تصف قريبا من صفوف الصلاة هنا وهناك، ويتدافع عندها المصلون قبيل الصلاة وبعيدها شاربين داعين، ولكن المياه في الحاويات سرعان ما تنفد، لينفض عنها من شرب ومن لم يشرب. ثم يأتي العمال الآسيويون، لا السعوديون، بحاويات أخرى مصحوبين بجلبة أصبح يعرفها الناس بأنها لسقيا ماء زمزم في الحرم، وهكذا يستمر الحال ليل نهار. ولحل هذه المشكلات، الجلبة والتدافع ونفاد الماء، بضربة لازب، كان من الأحسن أن تجرى المياه من تحت البلاط المرخم وتتثبت في أماكنها المعهودة، وتصنع للشاربين عيون تعمل بالضغط كالتي في الحرم المكي تسد الحاجة.
في المدينة المنورة يتطلع زوار معالمها التاريخية إلى مرشدين متفرغين يعيدون شرح التاريخ العظيم للأمة بشتى اللغات والوسائل فلا يجد معظمهم أحدا إلا في رحلات منظمة ساقت معها من يعلمها. في أحد حيث وقعت إحدى المعارك التي قادها النبي (صلى الله عليه وسلم) وخلد ذكرها القرآن الكريم، لا يزال ثراها يحوي أجساد الشهداء، على سفح جبل قال عنه المصطفى (عليه الصلاة والسلام): “إن أحدا جبل يحبنا ونحبه”. وفي أعلى قمة جبل الرماة يستدعي الصاعدون متنه مشاهد من فيلم الرسالة، فيعيدون رسم الحوادث في خيالهم على مسرح لا يزال على صورته الأولى، لولا أن الباعة كالعادة احتلوا قمة ذلك الجبل، الذي وقف عليه الرماة من الصحابة الأجلاء، ليبيعوا متاعا من الدنيا زهيد أمام مرأى رجال الأمن والبلدية.
مدينة منورة تفيض بالبركة
لا تسمع جلبة للحرس في المسجد النبوي كالتي هي في المسجد المكي، الناس في طيبة أهدأ طباعا وألين عريكة، فسبحان من خلق وفرق! ولكن يحدث لك أن تنادي على أحد من الشرطة في الحرم النبوي فلا يجيبك، ويمر عليك غير مكترث كأن في أذنيه وقرا.
مسجد قباء، أول مسجد بني في الإسلام، وللسابقة في الإسلام فضل مكافأ عليه، كما في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فخص النبي (عليه الصلاة والسلام) هذا المسجد بالصلاة فيه كل سبت، يأتيه ماشيا أو راكبا، وقال عنه: “إن الصلاة فيه تعدل عمرة تامة”. حكمة نبوية بالغة، وصنيع فيه إحسان بمدينة آوته ونصرته، كما دعا لها بالبركة في مدها وصاعها، ووعد من صبر على شدتها ولأوائها بالشفاعة يوم القيامة.
“اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة”. دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) للمدينة المنورة ضمانة للعيش فيها إلى يوم القيامة. وإنك لتشعر بالسكينة والراحة في طيبة أضعاف ما تشعر به في بكة حقا، أرض منبسطة، وحرم واسع الأرجاء، وجهد يسير في الغدو والرواح إلى الحرم النبوي، فنادق فيها سعة، وطعام لذيذ مشبع، وأهم من ذلكم كله جوار ميمون لساكن طيبة وأنس بروضه الشريف.
مغادرة المدينة المنورة لم تك بالسهولة التي يظنها كل من غادر منطقة زارها فأعجبته، إنها أعظم مدينة في الإسلام، فيها عاش المصطفى (صلى الله عليه وسلم) مرحلة التمكين وفيها دفن، وفيها نزلت معظم الشرائع وطبقت، ومنها انطلقت الغزوات، وعليها قامت دولة الخلفاء الراشدين، وفيها البقيع والروضة الشريفة، وفيها ما لا تريد القيادات في السعودية أن يعرفه الناس من التاريخ، حتى السارية التي كان المصطفى يجلس إليها يعمى عليها. غادرنا مدينة النور الحقيقي وتركنا قلوبنا هناك، ودمعت عيوننا ونحن نلقي سلام الوداع على خير من طويت في القاع أعظمه، فطاب من طيبهن القاع والأكم.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب