ثقافة وفنون

أغنية الخريف: قصيدة فيرلين في دنيا الموسيقى

أغنية الخريف: قصيدة فيرلين في دنيا الموسيقى

مروة صلاح متولي

ألف بول فيرلين قصيدة أغنية الخريف Chanson d’automne سنة 1866 وأصدرها ضمن ديوانه الأول «قصائد عابسة» الذي يضم بواكير إبداعاته الشعرية. تعد قصيدة «أغنية الخريف» من أشهر قصائد الشاعر الفرنسي الكبير، وهي قصيدة قصيرة موسيقية خلابة، تحتوي على بعض الصور الشعرية الرائعة. كان طبيعياً أن تجد هذه القصيدة طريقها إلى دنيا الموسيقى، وأن يضاف إلى موسيقاها الأصلية وإيقاع كلماتها وأنغام حروفها لحناً آخر، وأن تتحول إلى أغنية بالفعل ترددها أجمل الأصوات الغنائية الناطقة باللغة الفرنسية. ففي عام 1940 قام المغني الفرنسي الراحل شارل ترينيه بغناء وتلحين قصيدة فيرلين، ومن بعده غناها الكثير من المطربين الفرنسيين.

عالم الأغنية الفرنسية

ولد شارل ترينيه عام 1913 وتوفي عام 2011، ويعد من أبرز الأسماء في عالم الأغنية الفرنسية، كان مغنياً وملحناً وكاتباً للأغاني، ألف مئات الأغنيات على مدى عقود طويلة من الإبداع امتدت لما يزيد عن الستين عاما. واشتهر ترينيه بمجموعة كبيرة من الأغنيات الخالدة التي تركها ضمن تراثه الفني، الذي تعتز به مكتبة فرنسا الموسيقية، بعض هذه الأغنيات جاء ضمن أفلامه الغنائية اللطيفة منذ فترة الثلاثينيات من القرن الماضي، وهي أغنيات حاضرة دائماً، إما بصوته أو بأصوات غيره من المطربين من أجيال مختلفة، فكثيراً ما يحرص الفنانون الفرنسيون على إعادة تقديم عمل أو أكثر من أعمال شارل ترينيه. ومن أجمل ما قدمه ترينيه أغنيات «أنا أغني»، «البحر»، «بوم»، «دوس فرانس»، «رومانس دو باري»، «عندما كنت صغيرا»، «يديك في يدي»، وغيرها الكثير من الأغنيات.
قدّم شارل ترينيه قصيدة فيرلين إلى سامعيه بجمال أخاذ، ونظراً لقصر القصيدة يكرر ترينيه غناء بعض الجمل، لكي يكتمل شكل الأغنية القصيرة أيضاً، التي لا تصل مدتها الزمنية إلى الدقيقتين ونصف الدقيقة. وقد اشتهر شارل ترينيه عموماً بأداء الأغنيات القصيرة الخفيفة ذات الإيقاع السريع اللطيف، وبالكثير من الأغنيات التي تعبر عن الروح الفرنسية وتلامس القلب الفرنسي في العمق وتعبر عنه، وتعكس الثقافة الفرنسية بقوة. في أغلب أعمال شارل ترينيه نجد الألحان المبهجة والكلمات المرحة حتى إن كانت رومانسية، فإنها رومانسية باسمة سعيدة، وعلى الرغم من هذه السمات الغالبة على أعمال شارل ترينيه، نجده وقد ذهب إلى قصيدة من قصائد بول فيرلين الحزينة، إلى قصيدة «أغنية الخريف» بما فيها من حزن وكآبة وسوداوية، وكذلك بما فيها من جمال الكلمات وموسيقاها الداخلية وشاعرية الصورة والتعبير، اعتمد ترينيه على لحن هادئ شفيف تقوده كلمات فيرلين محكمة الإيقاع وتتحرك فيه بنعومة بالغة، حيث أنغام الوتريات الرقيقة مع لحظات من الدخول القليل للنحاسيات.

الخريف كموضوع فني

كان الخريف ولا يزال موضوعاً فنياً ملهماً للكثير من المبدعين على مستويات مختلفة، ولطالما تنوعت زوايا التناول حسب رؤية كل مبدع وإحساسه بهذا الفصل وآثاره المنطبعة في داخله، فهناك من يرى فصل الخريف باعثاً على الحزن والكآبة، مثيراً للأشجان والذكريات المؤلمة، ومشاعر الفقد ولحظات الفراق، ومذكراً بزوال الشباب والنضارة وربما بزوال الإنسان نفسه واقتراب النهاية وأوان الرحيل، وتساقطه من شجرة الحياة كتساقط الأوراق الجافة الذابلة، التي كانت خضراء نضرة يانعة في يوم من الأيام.
وهناك من يرى في فصل الخريف جمالاً بديعاً متفرداً، لا يشبه جمال أي فصل آخر من فصول السنة التي تتعاقب في نظام ثابت لا يتغير ولا يتبدل، حيث تلك اللوحة الملونة الرائعة التي ترسمها الطبيعة بشكل مذهل، من باليتة لونية تعتمد على درجات الأصفر والذهبي والبرتقالي والأحمر، وصولاً إلى اللون البني بدرجاته الفاتحة والباهتة والقاتمة. وعلى الرغم من فراق الأوراق الحتمي وانفصالها عن أغصانها، وتساقط الكم الهائل منها وفراغ الأشجار من بعدها، ذلك الفراغ الذي يوحي بالفقد والوحدة والصمت، رغم كل ذلك هناك من يرى في تلك الأشجار وأغصانها الفارغة العارية من الأوراق الخضراء، إشارة بداية، واستعدادا لحياة جديدة منتظرة، ولونا أخضر جميلا شديد النضارة سوف يعود بقوة ليلون وجه الحياة من جديد، وهناك من ينظر إلى الخريف كدليل على اتصال الحياة واستمرارها وتجددها.
ونجد أن الشاعر الفرنسي بول فيرلين في قصيدته الشهيرة «أغنية الخريف» يرى في فصل الخريف كآبة تغلف كل شيء، ويعبر من خلال كلماته عن إحساسه الدقيق بتلك الكآبة وبتأثيرات هذا الفصل عليه، مع الكثير من الرموز والتعبيرات التي تتجاوز كآبة الخريف إلى ما هو أكثر اتساعاً بطبيعة الحال. فهذه القصيدة القصيرة التي تعود إلى بدايات فيرلين الشعرية، تمثل نموذجاً لأسلوبه الشعري وسماته الإبداعية بشكل عام، والمعروف أن أشعار فيرلين تحتوي على الرمزية والرومانتيكية والكثير من خصائص المدرسة البارناسية بطبيعة الحال، التي كان فيرلين علماً من أعلامها، بالإضافة إلى التركيز على الصورة الشعرية ونقل الأحاسيس والمشاعر من خلالها، والاعتناء بالموسيقى وجمال الشكل. وغريب هو ذلك التناقض الكبير بين جمال أشعار فيرلين وحياته التي لم تكن جميلة، فقد عاش هذا الشاعر صاحب المنزلة الكبرى في عالم الشعر الفرنسي خصوصاً، والشعر العالمي بشكل عام حياة بائسة تعيسة، عرف خلالها الفقر والفاقة والتشرد، وارتكب فيها من الأخطاء والآثام ما أودى به إلى السجون وكلله بالعار.

«أغنية الخريف»

في قصيدة «أغنية الخريف» يسمع الشاعر صوت هذا الفصل ككمان يبكي وينتحب بايقاع رتيب ممل، يصيب قلبه بالفتور ويبعث في نفسه الكآبة، ويبدو كل شيء بالنسبة إليه شاحباً مختنقاً، وعندما تدق الساعة يتذكر الأيام الخوالي ويبكي، ويذهب مع الرياح التي تحمله هنا وهناك كورقة خريف جافة ذابلة لا حياة فيها. في هذه القصيدة القصيرة مكثفة المعاني يرسم فيرلين صورة شعرية حزينة، تنفتح على معان أكبر من المعاني المباشرة الخاصة بالطبيعة، فهناك تعبير عن الشعور بالضياع وعدم القدرة على التحكم في الأمور وفقدان السيطرة إلى درجة أن الرياح تتلاعب به وتحمله من جهة إلى أخرى كالورقة الجافة التي فارقت أغصانها، فالرياح هنا قد تمثل عبث الحياة بالإنسان وتقلبها به كيفما تشاء، وكما تتساقط الأوراق تتساقط أيضاً اللحظات الجميلة وتتحول إلى ذكريات تثير الأسى والدموع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب