ثقافة وفنون

الجزائر: المنسيون في حرب التحرير

الجزائر: المنسيون في حرب التحرير

سعيد خطيبي

عندما تنتهي حرب، ينقسم الناس إلى صفين: صف الأبطال الذين يوشحون بالأوسمة والهدايا، والضحايا الذين يصيرون أرقاماً وتشيد لهم مقابر، تفصلهم عن العامة. وماذا يحل بأولئك الذين لم يكونوا لا أبطالاً ولا ضحايا؟ أولئك الذين عاشوا في الوسط، لم ينخرطوا في الحرب، لكنهم تحملوا تبعاتها فحسب. أولئك الذين لم تغرهم صفة بطل ولا ضحية، وآثروا البقاء على مسافة من الأحداث التي تجري أمام أعينهم. إنهم كذلك ضحايا، لأنهم سوف يصيرون خارج التاريخ، لأن لا أحد سوف يتحدث عنهم، لا أحد سوف يتذكر ما قاسوه في خضم الحرب. لقد كانوا يقتسمون مشقة العيش مثل الضحايا والأبطال، لكنهم يخرجون من الحرب وهم لا يحملون أي صفة. والأسوأ من ذلك أنهم سوف يجدون أنفسهم في موقع التبرير. سوف يسألهم الناس: لماذا لم تشاركوا في الحرب؟ لكن لا إجابة لهم.
سوف يصفق الناس للأبطال ويترحمون على الضحايا، ثم يواجهون أولئك الذي ظلوا في الوسط بالسؤال المحرج: «ماذا كنتم تفعلون إبان الحرب؟»، لأن حيادهم سوف يصير ذنباً. ومن المحتمل أن توجه إليهم أصابع الاتهام: هل كنتم معنا أم ضدنا؟ هل صمتكم يعني أنكم كنتم في رضا عما فعله الخصوم؟ هذه الفئة التي التزامت الحياد سوف تجد نفسها، عقب الحرب، في وضع غير مرغوب فيه، وفي أحسن الأحوال سوف يجري تجاهلها، وتصير نسياً منسياً. لأنها لا تدخل في صنف الأبطال ولا الضحايا، بالتالي فإن لا حكاية لهم يرونها، ولا حكاية تروى عنهم. ومن يخرج من حرب، من غير أن يحمل في جعبته حكاية، سوف يجري تجاهله. فعندما تنتهي الحرب، تزهر الحكايات، والحكايات في صف الأبطال والضحايا، لا غيرهم.
هذه الوضعية، تذكرنا بما حصل في الجزائر، في السنوات الأولى التي أعقبت الاستقلال (1962). قبيل نهاية الحرب أعلنت جريدة «المجاهد» عن رقم مليون شهيد، ثم مضت أشهر قليلة وأعلن أحمد بن بلة (أول رئيس للبلاد)، عن رقم مليون ونصف المليون شهيد. ولا يزال الرقم متداولاً منذ ذلك الحين (مع العلم أن تعداد السكان في 1962 ناهز 10 ملايين نسمة). فالجزائري الحقيقي هو من قدم نفسه في الدفاع عن وطنه، أو من قاوم ونجا مثلما ينجو الأبطال في الملاحم. وشيدت مقابر شهداء في المدن والقرى البعيدة، مثلما أسديت أوسمة إلى المجاهدين، واستفادوا من مناصب وميزات، لكن لا أحد حكى عن أولئك الذين ظلوا في الوسط، الذين لم يدخلوا مقبرة شهداء، ولا يحملون بطاقة مجاهد. لم يكتب اسمهم على شاهدة من شواهد القبور، ولم تعرض صورهم في جريدة، أو في التلفزيون. ورغم أن حرب التحرير ولدت من شعار: «بطل وحيد هو الشعب»، وهي جملة تقتضي أن كل الجزائريين سواسية، وجميهم كانوا أبطالاً، لكن عقب الاستقلال وجد أولئك الذين لم يشاركوا في الحرب أنفسهم خارج التصنيف.

الحرب… نظرة من الداخل

يسهل على شخص، يعيش في 2024، أن يحاكم بأثر رجعي من عاش سنوات الخمسينيات، ولم ينخرط في حرب التحرير. من يعيش في أمان ليس مثل من يعيش في حرب، والظروف التي شهدتها أعوام الخمسينيات لم يجر تدوينها، أو الحديث عنها، كما ينبغي، فتدوين التاريخ من المهام المعطلة في الجزائر. نحتفي بالأحداث الكبرى، مثل ذكرى الثورة، أو عيد الاستقلال، وننسى أن ندون الوقائع التي سايرت الحرب، كي تفهم الأجيال الجديدة ماذا كان يحدث على الأرض. فالانخراط في حرب التحرير لم يكن أمراً سهلاً. في تلك الأثناء، لم تكن الأمور في وضوح كما هي عليه الآن. بينما جبهة التحرير كانت تسمي عملها «حرباً»، أو «ثورة»، كان المستعمرون يطلقون عليها «أحداثاً»، كانت في نظرهم مجرد حدث عابر. بينما المناضلون كانون يسمون أنفسهم مجاهدين، كانت الجرائد الاستعمارية، تسميهم قطاع طرق. ولا بد ألا نستصغر دور البروباغندا الكولونيالية، من جرائد وراديو ومخبرين كذلك، تكتظ بهم المقاهي والأسواق ويؤثرون على فهم الناس للأحداث التي تقع من حولهم. بالتالي لم يكن من السهل على البعض الانخراط في الحرب، والأمر لا يعني تخاذلاً منهم، أو أنهم لا يرجون استقلال البلاد، بل لأن المشهد كان معتماً، وتعسر عليهم النظر إلى الأشياء على حقيقتها. لقد كانوا ضحية البروباغندا من جهة، ومن جهة أخرى كانوا يعلمون أن التحاقهم بالحرب ليست مهمة سهلة، نظراً إلى ما قد يتعرضون إليه من ضغط أو مساومات من الاستعمار. فمن كان رب عائلة، ويعيل أطفالاً فلن يفكر في حمل سلاح، ثم التخلي عن أطفاله وتركهم من غير معيل، ومن كان شاباً يعيل والدين طاعنين في السن، فلن يفكر في الحرب، في وقت يحتاج فيه والداه لحضوره. ومن يلتحق بالحرب كان من المحتمل أن يتعرض أهله أقاربه إلى مساءلة من طرف الشرطة الكولونيالية.
بالتالي فإن هذه الفئة التي بقيت في الوسط، والتي لم تنضم إلى الأبطال ولا إلى الضحايا، لها أسبابها في الخيار الذي لجأت إليه، وهذا لا ينقص من وطنيتها، لكنهم عقب الاستقلال وجدوا أنفسهم منسيين. نصغي إلى حكايات الموتى والمحررين، ولا أحد يود الإصغاء إلى حكاية من بقوا على الحياد. قد يخيل للبعض أن أولئك الذين لم ينخرطوا في الحرب، وفضلوا الحياد، كانوا يعيشون في هناء، أي لم يصبهم ضرر ولا محن، بل الحقيقة عكس ذلك، فالجميع كان معنياً بما جرى، بل إن الفئة الوسطى قد تكون أشد ضرراً من غيرها، لأن الشهيد سوف يذكر الناس اسمه، عقب الاستقلال، ويعلق اسمه على شارع أو مدرسة، والبطل سوف يصير في واجهة الحكم، ويحتفى به مرتين في العام، بينما أولئك الذين آثروا الصمت تحملوا وزراً الحرب كذلك، عانوا من التفتيش ومن المداهمات ومن الجوع وقلة الزاد والعلاج، في الخمسينيات، تحملوا ما تحمله غيرهم، لكن لا أحد يتذكرهم عقب الاستقلال، يصيرون في عداد المنسيين، كأنهم لم يعيشوا. إنهم أشخاص عاشوا ويعيشون خلف الذاكرة، لا تاريخ لهم، مع أنهم الأجدر بكتابة التاريخ من موقعهم المحايد.

 كاتب جزائري

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب