رماية ليلية: سردية الحرب بين اغتراب المنفى وغربة الوطن
فاطمة واياو
«حقي في وطني، كحقي في موتي، لا أحد يقدر على سلبي إياه» غادة السمان
هل فعلا يملك كل انسان عربي حقه في وطنه؟ أو حتى في موته ومنفاه أيضا، وبهذه العبارة لغادة السمان، يمكن القول إن سرديات الحروب في عمومها تلتقي في التأكيد على عبثية هذه الحروب، بل هناك من يرفضها مهما كانت أهدافها ودوافعها. ففيرجينيا وولف Virginia Woolf كانت ضد اندلاع الحرب العالمية الثانية بعدما دمرت الأولى منزلها في لندن، فاختارت الانتحار على سماع صوات الطائرات وهي تقصف، أو ان تشهد أفواجا من الشباب الإنكليزي يعبر الجسر للالتحاق بالجبهات. فكتبت مقالا في زمن تواصل قصف الألمان للندن سنة 1940، «لقد حلّق الألمان فوق المنزل خلال الليلتين الماضيتين، وها هم قد عادوا من جديد. إنها لتجربة غريبة أن تنام في الظلام وتنصت إلى دبور يقترب منك، وأنت تعلم أن لدغته قد تكلفك حياتك في أي لحظة. إنه صوتٌ يحول دون أي تأملٍ قد نخلو فيه إلى أنفسنا لنفكر في السلام. ومع ذلك، فهو صوت ينبغي أن يشجعنا على التفكير في السلام أكثر من أي صلاة أو ترانيم».
كيف يمكن إذن قراءة رواية عن الحرب حين تتكاثف أحداثها رمزيا حول رماية واحدة ووحيدة تصوب في جنح الظلام، وحين يصدمك النص الروائي الجديد للكاتب اليمني أحمد زين، الصادر حديثا عن دار المتوسط، بدءا من العنوان الملغوم. ذلك أنه كيف يمكن أن نعيد للجملة هذه، «رماية ليلية» منطقها وصرفها النحوي والواقعي في معارك تخاض بين إخوة الأمس، الذين أصبحوا على جبهات المعارك أعداء.
منذ الصفحات الأولى تصدم القارئ الصورة المفزعة للموت المقبل، حيث يخيم الشعور بأواخر الأفعال والحركات، إنها صدمة حقيقة الحرب البشعة والتافهة لأنها ببساطة حرب غير ذات لون أو هدف. وإذا كان أحمد زين ابن الحديدة فإن صنعاء، أو عدن، تقيمان في أغلب نصوصه السردية كرمزية باذخة لوطن مفتقد بين كلمات اللافتات الثورية وصدى البارود المنطلق من كل الجبهات، حتى تلك المعتمة، حيث سقط فيها ضحايا لم يعلموا أبدا بأي نيران أصيبوا، فبين نيران صديقة ونيران عدوة مسافة تقلصت إلى ما يشبه اللاجدوى من القتال، حيث يغدو الهروب أو المواجهة في مأزق كهذا، وجهين لعملة واحدة، ذلك أن المتاجرة بالوطن لا يعادلها سوى القتل والدمار. ويبدو أن خيط الحرب كان حاضرا بقوة، حيث دأب الكاتب أحمد زين على رتق التشظيات المتعددة والمختلفة بخيط الإنسان اليمني، خيط بات في مرات عديدة أوهن من أن يشد من عضد المخيط، لتتأبد حالة التشظي والضياع على امتداد زمن الخيانات والتخاذل والتبعية. «رماية ليلية» هي أيضا صرخة يائسة من أجل وطن ضائع، وطن وإن عاد لن يعود بالكامل، فالوطن بعد هذه الرماية الظلامية أصبح مبتورا معاقا، يصعب ترميمه وجدانيا وروحيا، بل حتى أيديولوجيا. فهي ليست فقط رواية أو سردية حربية، بل هي كتاب مفتوح على واقع اليمن السعيد في مرحلة أبعد ما يكون فيه هذا البلد عن السعادة.
يحتفي نص «رماية ليلية» بالغربة إلى حد الاغتراب، حيث يصبح المنفى والوطن عنوانا لمأساة اليمني، ذلك أن أحمد زين يغوص بشكل جلي في عبثية المعركة في اليمن، أو بتعبير أدق يسبر أغوار الشخصية السياسية اليمنية، المسؤولين على وجه التحديد، التي يسكنها هاجس البحث عن السلطة لدرجة تفقد معها ما تبقى من إنسانيتها بعد أن ضيعت وطنيتها. وفي عز هذه المعركة نخال الراوي أو الكاتب بتعبير أدق وكأنه يعيش اغترابا مزدوجا مرة في المكان البعيد عن الوطن الضائع، ومرة وهو يحاول لملمة هوية الكلمات في نص يحتفي بالغربة والاغتراب والتشظي، فهل كان فعلا محقا انطونيو غرامشي Antonio Gramsci حين أعلن أنه «يكره اللامبالين، لا يوجد في هذا العالم إلا «الإنسان» أو الغرباء عن الحضارة، ومن هو حيّ بحق، لا يمكن إلا أن يكون مواطناً، أي جزءاً من الوطن وجزءاً من الحضارة البشرية، وبالتالي ينبغي أن يكون صاحب انتماء. اللامبالاة هي فقدان الإرادة، هي الكسل والتطفّل والجبن، إنها كل هذه العناصر المضادة للحياة الحقيقية، ومن أجل ذلك أنا أكره اللامباليين». فهل يصبح الانتماء مرا ودمويا إلى هذا الحد؟ أم أن الرماية الليلية تذهب بنا إلى أن اللانتماء أو الحياد في حروب بشعة وغامضة كهذه، هو أنسب الخيارات للإنسانية وللعدل والحق.
وإذا كانت رواية «فاكهة للغربان» للكاتب أحمد زين، تعلن عن مصادرة الحلم بيمن اشتراكي يساري، حيث غدت عدن مدينة ضيعت اليساريين لأنها لم تنجح في أن تكون لهم منفى، بعدما تعذر أن تكون وطنا حقيقيا لأبنائها. وقبلها رواية «ستيمر بوينت» التي عاد من خلالها الروائي بمدينة عدن إلى عهد قلق متوتر تمثل في الانتقال من العهد الاستعماري إلى عهد الاستقلال وحكومة الاشتراكيين اليساريين، وهو أمر يشي بأن أحمد زين يروم بناء سرديات على شكل ملحمة عن مدينة عدن. أما في نصه الأخير «رماية ليلية» فإنه يعيد تشكيل أزمة الإنسان اليمني، حيث قارب وبشكل عميق ما يعيشه المنفيون الهاربون من ويلات الحرب، فهم في اعتقادهم في آمان من الموت لكنهم غارقون في الشك والريبة، حد الخوف الذي يقتلهم آلاف المرات، دون أي رماية مصوبة نحوهم من الزناد «لكنكِ اكتشفت انه يطيب لهن عيش حياتهن هكذا، على مسافة من الآخرين، بمن فيهم أنتِ».
الحضور الانثوي في النص
في الحضور الأنثوي هذا توسد صفع الإعلام المتواطئ مع السياسيين الواهمين بانتصار في مستنقع الهزائم من خلال المذيعة ليلى التي تعرف أن الخطاب المذاع مجرد وهم ولكنه مفروض في معركة تبدو خاسرة ويصر قائدها على التفاني في شعارات النصر وهو يرنو لصنعاء من وراء آلاف الأميال، من منفاه حيث ما زال يمارس هواية الاستيلاء ومقايضة الوطن بمتاع زائل ووضيع رغم لمعانه. بتتبع الكاتب هذا الحضور الأنثوي وكأنه يريد أن يدحض فكرة أن النساء لسن فقط ضحايا، بل لقد أصبح للحرب وجه أنثوي، بل إن الأنثى أصبحت وقودا للحرب. فهل فعلا ليس للحرب وجه أنثوي كما قالت سفيتلانا اليكسيفيتش Svetlana Alexievich، ففي الرماية الليلية هذه بات الوجه الأنثوي أحد مظاهر الحرب البشعة. فالأنثى هنا هي أيضا الزينبيات، ليصبح لحرب اليمن، ليس فقط وجه أنثوي، بل وجه بشع بصيغة المؤنث، في إصرار ليس على المساواة والعدالة، بل على الاستغلال بأقذر أسلحته ووجوهه فوحدهن النساء في مثل هذه الظروف العصيبة المستعدات ليس فقط للتفاوض والبيع، ولكن أيضا لإذكاء الحماس وتجنيد أكبر عدد من الشباب والفتيات أيضا في معركة غدت كل الأسلحة فيها مشروعة بل وشرعية. أليست النساء هن الحارسات على الشرائع والشعائر على حد سواء.
تضعنا رماية ليلية أيضا أمام مفارقة صادمة:» كما لو أن الحرب قد أرادت له أن يحمل سريعا عبئا ثقيلا، حين قتل برصاصة واحدة رجلا تفانى في رعاية والده»، بل ربما أن مثل هذه الحروب «تحتاج إلى مريض نفسي أكثر مما تحتاج إلى مجند».
الروائي أحمد زين لا يكتب بغزارة، فالنص الروائي عنده عمل يطبخ على مهل التأمل والتفكير العميق، كي لا يتحول العمل السردي الأدبي إلى بيان سياسي فج، من هنا جاءت جل أعماله ذات حمولة فكرية عميقة للواقع اليمني المعقد، الذي يتطلب قدرا كبيرا من العمق والتشظي في الآن نفسه لغويا وأنطولوجيا. ذلك أن الكاتب في كل مرة يسرد حديث الحرب في بلاده اليمن يصبح في مواجهة على الأقل سرديا لجماعة الانهزاميين، وهم يحذوهم الإصرار على ادعاء النصر، رغم كونه انتصارا في اتجاه الهروب نحو جبهات أكثر غنى وراحة، إنه هروب باتجاه الاغتراب خمسة نجوم، أو لجماعة المسحوقين والمظلومين الذين جز بهم في حرب ليست، حربهم وما زالوا في انتظار التكريم بنياشين وعدو بها من طرف من لا يملكون سلطة منحها لأنهم بكل بساطة مجرد مرتزقة يخوضون حربا بالوكالة. أما من حيث اللغة والأسلوب فنص «رماية ليلية» يتوسد تقنيات تتراوح بين لغة سردية كلاسيكية، ولغة الرواية الما بعد حداثية باستدعاء تقنيات متعددة، لعل أبرزها:
استعارة البوح: يمكن القول إن الخط السردي في «رماية ليلية» هو خط يستقصي مكنونات النفس لشخصيات الرواية من خلال توظيف السرد كشكل من أشكال البوح، حيث انبرت كل شخصية تبوح بما اقترفته الحرب اتجاهها من فظاعات فالجندي المبتور الساق مثلا، يتخذ من كتابة الرسائل وسيلة للاستشفاء من فظاعات الحرب، وأيضا علاجا لضمير يعاني من ثقل ما اقترفه خلال المعارك. وهناك أيضا تقنية المونولوغ الذي كان وسيلة أغلب شخصيات الرواية للبوح بمكنونات النفس، في محاولة للتطهير من خلال التذكر والمواجهة. وقد أحسن الكاتب استعمال الضمائر وتنويعها من مخاطب وغائب بشكل جعل من استعارات البوح وسيلة للإدانة ولكن أيضا أداة للاعترافات.
استعارة المكان: شكل المكان في النص استعارة تحيل على رحلة الإنسان اليمني عبر تاريخه الطويل المرتبط بالوطن والنفي، فصنعاء كمكان شكلت الوطن/ الاحتواء، ولكن أيضا مكانا يلفظ الإنسان من خلال سلسلة من الحروب والمظالم، فأبطال رماية ليلية خاصة منهم الجندي في المستشفى وليلى المذيعة وفايزة موظفة الفندق، وأيضا سلوى التي كانت منتمية لحركة الزينبيات، قبل أن تهرب للخارج لاجئة. يمنيون منفيون مكانيا وروحيا، ذلك أن الهروب من الحرب شكل أيضا هروبا من الذات ما جعلهم يعيشون صراعا داخليا متواصلا. هكذا تبدو الاستعارة المكانية هنا ذات أهمية فصنعاء ليست فقط وطنا ضائعا، بل هي أرض معركة خاسرة وغريبة، حيث يبدو فقد الانتماء لصنعاء استعارة على فقدان الانتماء للوطن وبالتالي فقدان الهوية. ومثلما تستهل «رماية ليلية»، يختتمها الكاتب بالتردد بين الحياة والموت، فلا شيء يقيني حين تصبح الثورة مغتصبة والحروب سخيفة ودون جدوى. كما أن لأمكنة المنافي (الرياض، القاهرة( أهمية خاصة حيث تغدو مجرد أمكنة باردة لا يشعر المنفيون بالانتماء لها، ليصبح الاغتراب هاجسا يعيشه اليمنيون، حتى إن استطاعوا الهرب من الموت ومن جحيم الحرب.
وفي الختام نتساءل في ما إذا كان نص «رماية ليلية» مجرد سلسلة هزائم متلاحقة؟ يقتفي النص صور السقطات المتتالية لبلد نسج تاريخه الطويل والممتد بخيوط متشابكة من الحروب والخيانات والتخاذل والجحود، غير أنه لا يمكن التغاضي عن النظر إليه بأنه نص منتصر انتصارا أبديا لأنه يحمل لغة سردية بليغة وعميقة ستسير بعيدا في الزمن السردي الإبداعي العربي، لأن الكاتب أحمد زين بنى بنية نصه الأخير «رماية ليلية» من لغة تتجاوز حدود المأساة اليمنية لتعانق المعاناة الإنسانية حيث يمكن أن يفقد الإنسان المعاصر ليس فقط وطنه ولكنه وهي مأساته الحقيقية أن يفقد منفاه أيضا.
كاتبة مغربية