
«يوسف وإخوتُه» يتحدّثون بالعربيّة!

بروين حبيب
كان على القرّاء باللغة العربية أن ينتظروا واحدا وثمانين سنة كاملة ليقرؤوا رواية «يوسف وإخوته» للكاتب الألماني الحائز جائزة نوبل توماس مان، التي صدرت قبل شهرين عن دار الرافدين بترجمة محمد إسماعيل شبيب أستاذ اللغة الألمانية في جامعة بغداد، ومراجعة الباحثة والمترجمة لميس فايد المتخصصة في الفلسفة اليهودية والمصريات في جامعة هامبورغ، وقد استغرقت ترجمة الرواية الملحمية ذات الألفين وثلاثمئة صفحة أربع سنوات كاملة، في حين أن كتابتها أخذت من عمر توماس مان ستة عشر عاما لإنهاء أجزائها الأربعة، فقد بدأ كتابتها قبل حصوله على جائزة نوبل، وصدر الجزء الأول منها بعنوان «قصص يعقوب» سنة 1930، وكذلك الجزء الثاني «يوسف الفتى» سنة 1930 في ميونيخ، أما الجزء الثالث الذي يحمل عنوان «يوسف في مصر» فقد صدر سنة 1936 وتوماس مان منفيّ في سويسرا، وكذلك هو الحال مع جزء الرواية الأخير «يوسف المُعيل» الذي صدر في بداية 1943 والكاتب في منفاه الأمريكي بعد أن سحب النازيون منه الجنسية الألمانية وأحرقوا كتبه في الساحات.
وليس هناك مبرر لتأخر ترجمة هذه الرواية الملحمية إلى العربية، خاصة أن جميع كتبه قد ترجمت من قبل إلى لغة الضاد، فلا سبب في ذلك سوى ضخامتها من جهة، مثلما حدث مع رواية بروست «البحث عن الزمن المفقود» ذات المجلدات السبعة، وكذلك صعوبة أسلوبها وكثرة مصطلحاتها، حتى إن مترجم الرواية استعان بمعجم يفك رموزها فكتب في مقدمته «الرواية كانت عصيّة على الفهم دون أن يكون لها معجم خاص بمفرداتها وأسماء شخوصها، وقد استعنتُ على وجه الخصوص بمعجم آنکه ـ ماري لوماير، وهو معجم إلكتروني خاص برواية توماس مان التي بين أيدينا». وقد أشار جون إي وودز في ترجمته الإنكليزية لهذه الرواية إلى هذه الصعوبة اللغوية، حين وصف نثر توماس مان بأنه «ممل وكثيف وغير قابل للقراءة تقريبا». ولكن من يصبر على قراءتها في عصر السرعة والنوفيلا يجد نفسه أمام رواية مذهلة، ليست إعادة سرد للقصة التوراتية فقط «بل هي معالجة نقدية فلسفية للتاريخ والموروث. فالرواية تغوص في عمق التاريخ وصولاً إلى بداياته الأولى، متلمسة أسباب الوجود، وجودنا، وتُحيلنا إلى علم المصريات مع تصويب لمفاهيم توراتية عدة» كما ذكر المترجم.
ما الذي يدفع كاتبا يضعه الألمان في مصاف غوته إلى إعادة سرد قصة لم تشغل سوى 23 صفحة من سفر التكوين، من العهد القديم في التوراة، ويرويها لنا في مئة ضعف من الصفحات، فهل كان من طرف خفي يحقق رغبة مثله الأعلى غوته حين كتب يوما «هذه القصة المليئة بالطبيعي، لا يمكن إلا أن تغري، لكنها تبدو قصيرة جداً، وتشعر برغبة ملحة في سردها بمزيد من التفصيل». في الحقيقة يعود اهتمام توماس مان بقصة يوسف وإخوته إلى طفولته، وهو يقرأ القصة في التوراة، ثم اطلاعه على كتاب «بلاد الأهرامات العجيبة القديمة» لكارل أوبلز، أحب الكتب إلى نفسه وهو صغير، ولعله أراد لحاجة في نفسه أن يكتب هذه القصة متبعا خطى غوته، الذي سبق له أن أعاد صياغة قصة يوسف ولكنها ضاعت، غير أن توماس مان نفسه يورد في مذكراته، أن سبب كتابته لهذه الرواية يعود لدعوةٍ تلقاها لكتابة نص صغير عن مجموعة من الصور للرسام هيرمان إيبرز كرّسها لقصص يوسف التوراتية في معرض أقيم في ميونيخ سنة 1925. وبعدها بسنة كتب توماس مان نصا حول الموضوع عنوانه «النزول إلى الجحيم» جعله مدخلا لجزئه الأول من الرواية في ما بعد.
وما كان لنا أن نستمتع بهذه الرواية التاريخية المفصلية في كتابات توماس مان، لولا أن ابنته أريكا تمكنت من إنقاذ مسودات قسم منها بعد أن هرّبتها في صندوق سيارتها خوفا من رقابة النازيين وأوصلتها بسلام إلى والدها الذي كان يقضي عطلته السنوية في سويسرا آنذاك، ليعمل على جزئها الثالث بطريقة وصفها هو نفسه بأنها عمل يشابه في مشقته وحجمه بناء الأهرام. ومن تُتَح له زيارة أرشيف توماس مان في متحف زيوريخ في سويسرا سيعجب من كثرة المراجع التي استفاد منها في كتابة الرواية، كما سيجد ملفات كثيرة وصورا وأوراقا لا تحصى بخط يد المؤلف نفسه، ولم يكتف الروائي الألماني بالمصادر التاريخية والأدبية واللغوية، خاصة في الهيروغليفية، بل زار مصر عدة مرات ووصل إلى بلاد النوبة، حيث تجري أحداث روايته، وكان يقول إن هذه الزيارات منحته قوة الاستمرار في الكتابة، وكل هذا البحث المكتبي والميداني كانت نتيجته رواية «يوسف وإخوته» التي قال عنها توماس مان يوما باعتزاز بأنها «تحفة ستتذكرها البشرية مع تقادم الزمن مع أنها بنيت على ماض لن ننساه أبدا».
يبدو لأول وهلة في رواية «يوسف وإخوته» أن توماس مان تتبع الرواية التوراتية لهذه القصة، ولكنها في حقيقة الأمر سردٌ شمل التاريخ التوراتي الكامل للبشرية، من وقت الخلق وتمرُّد الشيطان (لوسيفر) إلى زمن توماس مان نفسه، مع ما صاحب ذلك من تأويلات وإسقاطات على ما كان يجري زمن كتابة الرواية من نازية ودعاوى عنصرية.
ورغم أن الكاتب اعتمد في عمله الضخم على سفر التكوين، خاصة الفصول التي تبدأ من ولادة إسحاق والد يعقوب إلى وفاة يوسف، لكنه لم يقتصر مثل الرواية التوراتية على سرد الأحداث فقط، بل توسع جدا في تحليل الشخصيات، ويكفي أن نذكر أن خبر إغواء زوجة بوتيفار (أو عزيز مصر كما يعرف في الأدبيات الإسلامية) الذي ورد في فقرة واحدة في العهد القديم، تمدد في رواية توماس مان إلى عشرات الصفحات، شكلت محاضرة طويلة في الحب وتحليلا عميقا لنفسية المحب، وتحوّلِ الحب إلى نقيضه رغبةً في إيذاء المتمنّع. ورغم اتباع توماس مان أسلوبا تاريخيا خطيا يسرده علينا راوٍ عليم بكل شيء، إلا أن تحليلاته ومزجه الأساطير بما ورد في الرواية الرسمية التوراتية، إن صح التوصيف، يفرض على القارئ متابعة التفاصيل، وإن كان على علم بخطوط القصة العريضة التي حكتها الديانات الإبراهيمية كلها، وسمعها القراء مرارا. فصحيح أن رواية «يوسف وإخوته» رواية تاريخية، ولكنها في حقيقتها دراما عائلية، تبدأ بقصة والد يوسف يعقوب الذي خصص توماس مان الجزء الأول كاملا له، بدءا بحالة المجتمع في زمنه واختلافه مع والده وهروبه وزواجه ووفاة زوجته راحيل أم يوسف، مع إطار تاريخي يتوسع فيه توماس مان مستلهما من الحضارات الآشورية والبابلية والمصرية، ليخلص في الجزء الثاني إلى التركيز على طفولة يوسف، وبروز علامات التميز عليه، سواء بجماله الجسدي الفائق، أو بأحلامه التي تظهر الاختيار الإلهي له، وغيرة إخوته من غير أمه منه إلى درجة محاولة التخلص منه بإلقائه في البئر. لتستمر الأحداث في الجزء الثالث أكبر أجزاء الرواية، الذي يتحول فيه يوسف اليهودي إلى يوزارسيف المصري، وما جرى له من قُربٍ من فرعون مصر وبُعدٍ سببه عشق امرأة له. لتُختتم هذه الملحمة اليوسفية بجزء «يوسف المعيل» وحكاية الأبقار السمان والعجاف وإظهار قدرة يوسف التنظيمية التي منعت عن مصر المجاعة، والتقاء إخوته به وطلب المغفرة منه.
وهكذا تنتهي بذلك رواية جعلت من القراءة تدريبا على التأمل لا ترفا ترفيهيا. ولا يملك من أنجز مهمة قراءتها إلا أن يتبنى ما كتب صديق توماس مان الكاتب الألماني الحامل بدوره جائزة نوبل، هرمان هسّه في رسالة لصاحبه جاء فيها «قرأت روايتك (يوسف وإخوته) بمتعة بالغة تستوجب الثناء. وعلى نقيض التصورات السائدة عن الكتابة التاريخية، راق لي كل سطر في الرواية، وعلى الأخص روح السخرية المترعة بالحزن، التي تفحصت عبرها إشكالية العلاقة بين التاريخ والكتابة السردية. بالنسبة لي، اتسم العمل بالاتساق والتناغم الداخلي العميق».
كان توماس مان عارفا بقيمته الأدبية فحين أخبره ابناه بفوزه بجائزة نوبل سنة 1929 أجابهما بثقة وهدوء قائلا، «كنت أنتظر ذلك»، بل لم يعجبه الأمر كثيرا لأن نوبل أعطيت له لأجل روايته الأولى «آل بودنبروك» وليس لأجل رائعته «الجبل السحري»، لذلك انزعج من تفاعل القراء البارد مع روايته الملحمية فأجاب، هرمان هسّه على رسالته قائلا «لك أن تتخيَّل مدى الحُمق والوقاحة الذي استقبلت به رواية (يوسف وإخوته)، من أغلب القُرَّاء دونما استثناء تقريبا. لقد صدمت فيهم، وأشفقت على جهلهم في الوقت ذاته حينما لمست فيهم هذا الكم من العنت والختان الفكري، إنهم مختونون فكريا!» فهل يجد بعض العزاء إذا وصله حيث هو الآن خبر ترجمة روايته إلى لغة الضاد؟إ
*شاعرة وإعلامية من البحرين