ثقافة وفنون

المثقفون والجنس والثورة: مقاربات أدبية في كسر المحرمات

المثقفون والجنس والثورة: مقاربات أدبية في كسر المحرمات

نيجرفان رمضان

 

الثورة من فعل ثار، أي الانتقال من واقع سيئ إلى واقع أجمل، هي فكرة والفكرة لا تمر مرور الكرام في حياة المجتمع، إذ تتغلل فيه، لكنها تحتاج إلى أرضٍ خصبة تلائم بذرتها وإلى فصل للنضوج وموسم للقِطاف، معناه هدم القديم لبناء الحديث في الشكل والمضمون، كأن تثور ضد طبقة اجتماعية، أو مؤسسة دينية بفكرة ما، مثلما فعل الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغوا الحاصل على جائزة نوبل للآداب، حين رمى الحصى في بركة ماء فأحدث دوائرَ كثيرة كانت ثورة في بركة ماء ساكنة، ونشر رواية بعنوان «انقطاعات الموت» كانت بمثابة ثورة، ليضع المؤسسة الدينية على محك السؤال، في موقفٍ محرج يُرثى له «ماذا ستكون مهمتكم في الحياة إذا توقف الموت؟ كأنه يقول بماذا ستغوون الناس بعد الآن؟».
كتاب «المثقفون والجنس والثورة» صدر لأول مرة باللغة الفرنسية تحت عنوان «عاهرات وعزّاب في القرن التاسع عشر»، بعدها صدرت النسخة العربية منه؛ وهو ثورة على التقاليد المرعبة فأبطاله أدباء بوهيميون وفتيات ليل، وموضوعه العزوبية والحياة المتحررة، فالمثقف والعاهرة ثوريان بصيغة ما؛ نموذجان ثنائيان أثارا الرعب في المجتمع البورجوازي الفرنسي، خلال القرن التاسع عشر، إذ كانت عقلية ذلك العصر تعتبر الدعارة والعزوبية من آفات المجتمع. مؤلفة الكتاب تنغمس في حياة من احتلوا مكانة شاهقة في الأدب وتاريخه مثل، بلزاك ـ بودلير ـ فلوبير ـ سارتر وستندال، لتشرح مواقفهم من المؤسسة الزوجية والجنس والعزوبية. يقول شارل بودلير الشاعر الفرنسي عن العاهرة أو فتاة الليل إنها «خُلقت ليُحتفل بها ومادة للمتعة العامة»، ويؤكد أنها «تعرف جيداً كيف تصنع من جسدها مادة فنية مستفِزة وبربرية؛ مشيتها وملابسها وزينتها، وتكتسب طبيعة خاصة بنظرات عينيها تمنحها شغفاً مضاعفاً عند الآخرين.
«وكتعريف آخر لها، هي التي تعير جسدها مقابل المال، أو مقابل خدمة يقدمها فاعلها لها فتكون هي المفعول به، وهذا الفعل يُسمى الدعارة، وهي منتشرة بكثرة في المدن المكتظة بالبشر، فلا أحد يعرف الآخر، هي خيانة في العرف الزوجي، إذا كان أحد الطرفين متزوجاً، وزنى بالعرف الديني. كثيراً ما تكون الغاية من ارتداد هذه البيوت إفراغ الشهوة لعدم قدرة الشاب على الزواج لأسباب اقتصادية مادية بائسة، مثل الموظف ذي الدخل المحدود، إضافة إلى الطلاب القادمين من الأرياف إلى المدن، والعسكريين والعاملين على متن البواخر، وجشع الأثرياء ورجال السلطة الذين استغلواالفتيات التعيسات، أو الخادمات في منازلهم، ممّا زاد نسبة بيوت الدعارة، إضافة إلى تعقيد الزواج وشروطه، ثم إنّ الزواج، في حد ذاته مسؤولية، وجمالية ونقاء هذه البيوت ـ بيوت الدعارة تكمن في حياديتها في الحياة العامة، في لا طائفيتها، لا عنصريتها، ولا حتى راديكالية أفكارها، ولا قتلٌ للهوية، رغم ذلك تبقى مؤسسة منبوذة اجتماعياً لدوافعٍ أخلاقية، كونها تخدش الحياء العام بفعلها، فالأخلاق حسب المفهوم البيئوي للكلمة تعني تربية الفرد بعيداً عن التعريف الفلسفي للكلمة، وعلى الأخص في المجتمعات البورجوزاية المهتمة ببرستيجها وذوقها العام، قبل أن تكون مهتمة بالأخلاق بجميع معانيها، كاحترام من يعملون في مصانعهم دون استغلالهم مثلاً؛ ثم إنّ البورجوازيين كانوا في تناقض حاد مع أنفسهم، إذ كانوا يسمحون لأبنائهم الذكور بممارسة الجنس مع العاهرة، ليحصلوا على ضمانات مطلوبة قبل الزواج، فالبورجوازي في نظر العزّاب «حيوانات برية، فقط هم الذين يعشقون الشمس»، بينما الشباب الأعزب والعاهرة فنانون بوهيميون لا يعيشون إلّا على أضواء المصابيح الليلية، التي تضيء الشوارع، إذ يرتدون قناع المتألق الأنيق فيعطي انطباعاً بأن لديه الرفاهية والوقت الكافي لتذوق الفنون والثقافة، على عكس البورجوازي الذي يذهب الى الفراش في ساعة مبكرة، ويتم التعرف عليه من خلال مصطلحات معينة مثل «حصل على البورجوازية»، أو «أخذ بورجوازية» بدلاً من مصطلح الزواج، والأمر نفسه بالنسبة لفتاة المتعة التي تفرض نفسها بالصيغة التي تحب هي، وليس صيغة بورجوازية المجتمع.

مساهمة العاهرة في الأدب يوضح جول جانان «إنّ العاهرة هي العناية الإلهية لهذا النوع من الشباب الأعزب، شرفٌ وروح وضوضاء مدارسنا.. هي حب ضاحك مهمل لشعراء بلا عشيقات، لخطباء ما زالوا في أول الطريق، لجنرالات دون سيف، لسياسيين دون منبر. إنّ كل شاب يعيش في باريس بأموال هزيلة يمنحها إياه والداه، وبقليل من الأمل، له الحق في أن يكون هو الطاغية الفائز بهؤلاء الماركيزات الجميلات في شارع فيفان». إذن العاهرة لم تكن مجرد فتاة ليلٍ تخدم الملذات، بل كانت ملهمة للأدباء؛ لها حضورها الواضح في الأعمال الأدبية الروائية والتشكيلية، وفي دفع عجلة الأدب إلى الأمام، ففي عام 1976 صدرت رواية «مارتا.. حكاية فتاة» لأيوسمانس من وحي خياله الذاتي، لكن تمّ توقيف الكتاب على الحدود الفرنسية البلجيكية ومصادرته بتهمة التعدي على الأخلاق العامة. وفي العام الثاني صدرت رواية أخرى بعنوان «الفتاة إيلزا» لإموندجونكور، فكرتها مستوحاة من قصص عشيقة الأخوين جونكور، وفي عام 1880 أثارت رواية «نانا» لإيميل زولا ضجة كبيرة، إذ صنع زولا شيئاً استثنائياً في عالم طبيعي تحكمه العزوبية، ما يفسر لماذا كانت «نانا» الأقل حميمية والأكثر استخداماً للاستعارات البلاغية من كل رواياته، التي خصصها لفتيات الهوى، ذلك لأنه انتقد الواقع من خلال»نانا» بطلة روايته، إذ يقول فيها زولا: بقوة أنوثتها ، أي نانا وهي فتاة متمردة ،استطاعت أن تجعل البروليتاريا الحضرية، حيث تعود أصولها، على اتصال بكل طبقات المجتمع الباريسي: الصحافة والطبقة الارستقراطية، ووجهاء الدولة، حيث تكشف عن ضعفهم جميعاً. ويقول عنها زولا «عملها هو الخراب والموت، وتمّ إنجازه بالفعل، فالذبابة الطائرة، يقصد بها نانا، القادمة من زبالات الضواحي أتت حاملة العفن الاجتماعي، وسممت الرجال ولم يعد بمقدورنا أن نطلب شيئاً»، كما كتب ألكزاندر بارون دو شاتيليه، أطروحة عن البغاء في باريس، وإنّ الكتابة عنهن لم تأتِ بدافع الشهوة والغريزة، بل كانت إيماناً بمقولة «الأدب مرآة المجتمعات». «إنّ مايبدو إعجازيَّاً في ذلك العمل هو قوة الحقيقة التي تظهر منه، إنهن فتيات يعملن في ذلك البيت ولسن فتيات أخريات، وإذا كان وضع أجسادهن ورائحتهن المزعجة وتعفن جسدهن تحت أضواء مصابيح الغاز، كل ذلك يظهر بوضوح ودقة بشكل غير مسبوق، فإنه أظهر أيضاً إنسانيتهن البهيمية وطفولتهن»، هذا ماكتبه أيوسمانس عام 1880 عن إحدى اللوحات المائية لجان لوي فوران.

يُشار بالنظر إليه..يقول شارل جيروم لوكور مؤلف كتاب «الدعارة في باريس ولندن»، إنّ اضطراب الرجال يشكل السبب الأول في الدعارة، فالشباب المتزوج في سن متأخر انتظاراً للحصول على عمل جيد ومنصب مرموق، وفي أثناء الانتظار يتسلى، وكما أنه يجب أن يحافظ على صحته، فإنه يشتري متعته، والثمن يكون عار فتيات تعيسات، بينما البورجوازيون قالوا عن ذلك: «إنّ العزوبية هي مرادف للجنس مقابل المال»، أي أنّ العازب هو المسبب في تفشي الدعارة في المجتمع، لكن العلاقة بين الدعارة والعزوبية كانت محفوفة بالمخاطر، إذ يشير بلزاك على لسان أبطال روايته «ابنة العم بيت» عن خطورة تلك العلاقة، «حينما ينجذب العزّاب لِمن هم من جنسهم؛ مثلما حدث مع «بيت»، فإنهم يصبحون أكثر ضرراً، إذ أنّ الطاقة العائلية التي كان من المفترض توجيهها لتكوين أسرة وإنجاب الاطفال، تتحول بالكامل من أجل الدسائس والمؤامرات»، «بيت» فتاة عانس وساخطة، بينما «فاليري مارنيف» امرأة نصف مشهورة اجتماعياً، وهي متزوجة من «ليزبيث فيشر». الاثنتان بيت وفاليري، تتآمران لتدمير عائلة البارون «أولو»، وكلتاهما تستمتعان بالجلوس معاً لحساب ما تحققانه من أرباح جراء جمع الكنوز، إذ أنّ الإثنتين تعيشان فقط لاختراع مناورات هدفها سحب الأموال من الرجال الذين يخدعونهما ولا تتوقفان عن ذلك، لكن في النهاية ينتهي المطاف بـ»بيت» وحيدة فقيرة كما كانت بدايتها؛ كانت عبقرية في التآمر.
يقع الكتاب في 156 صفحة ضمن خمسة فصول هي «بنات وأولاد»، «مومسات.. بوهيميون.. ومنحطون»، «موت بالتقسيط»، «إنفاق وتضحيات»، «عالم جديد من الحب»، مبتدئ بقصيدة تعبر عن فحوى الفصل. مؤلفة الكتاب لور كاتسارو، وهي أكاديمية فرنسية متخصصة في آداب القرن التاسع عشر، حاصلة على الدكتوراه في الأدب الفرنسي من جامعة السوربون في باريس عام 2001، قبل أن تحصل على دكتوراه أخرى في الأدب المقارن عام 2003 من جامعة ييل الأمريكية. ومترجِم الكتاب محمد عبد الفتاح السباعي هو محرر ومترجم لغة فرنسية، في قسم الشؤون الخارجية في مجلة «آخر الساعة» وحاصل على دبلوم عال في الأدب والحضارة الفرنسية من جامعة السوربون.

كاتب وشاعر سوري

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب