“فهرس الملوك” مجموعة القاصة العُمانية ليلى عبد الله: المثقف والسلطة ومرتكزات الحكاية
“فهرس الملوك” مجموعة القاصة العُمانية ليلى عبد الله: المثقف والسلطة ومرتكزات الحكاية
عادل ضرغام
في المجموعة القصصية “فهرس الملوك” للكاتبة العُمانية ليلى عبد الله هناك بنية موضوعية وفكرية تلمّ شتات القصص، فجميعها تركّز على علاقة ممتدة، هي علاقة الراعي والرعية، أو الحاكم والمحكوم. تبدو سلطة الأول سلطة قامعة تتكوّن غالبا من خنوع الأخير، ويصبح للأول هالة من التقديس دون مساءلة، وبالتدريج يخيّل لصاحب السلطة أن هذه السلطة يمكن أن تزيد، وتصبح فاعلة في ظواهر الطبيعة، مثل البحر والمطر والسيل. فمن بداية التصدير المأخوذ من الشاعر الكردي لطيف هملت تتشكّل ملامح هذه الثنائية التي لا تثبت فقط قدرة للراعي أو لصاحب السلطة، لكنها تؤسس لسلطة أكبر مأخوذة من طبيعة الحياة ومنطق الزمن والوجود.
يتولّد من الثنائية السابقة ثنائية أخرى تتداخل دوائرها معها، فالاختلاف بينهما ليس في النوع، بل في الدرجة، ففي قصص المجموعة هناك تركيز على حكايات محددة، وعلى مجموعة من الرموز، تستخدم بشكل واع، وهذا الاستخدام يشير إلى مساحة فاعلة من التوجيهات السردية، بل يشير إلى أن اختيار الفصائل في قائمة الحكّام والمحكومين لا يخلو من قصدية التوجيه، للوصول إلى مقاربة الحالة أو الحالات الخاصة بثنائية المثقف والسلطة، في إطار فيه الكثير من الشمول، فيلمس القارئ كل أنماط المثقفين من مثقف حرّ، إلى مثقف مرتبط بالسلطة يروّج ويؤول أفعالها، بل ويقترح مسارب للخروج من أخطائها، إلى مثقف به الكثير من الليونة والمطاوعة للحفاظ على مشروعه.
اتكاء المجموعة القصصية على الحكايات التراثية، وخاصة حكايات التراث الشعبي الأقرب إلى الشفاهية، يجعل القارئ يشعر أنه أمام حكايات سمعها قبل ذلك، فهي حكايات كلاسيكية، وكلاسيكية شعبية على نحو خاص، وقيمتها تنبع من كوننا لا نمل من الإنصات إليها، وإعادة الإنصات إليها مرات عديدة، لأن بها تمثيلا للحياة بكل تجاربها، ولأن بها أيضا رصدا لصاحب السلطة في معناه المثالي في الصعود والتغوّل والهبوط، ولأن بها تسجيلا للانتقام الخفي من السلطة الغاشمة لصالح الشعب أو لصالح الرعية، حتى لو كان هذا الانتقام لا يحدث بوسيلة من وسائل المقاومة، لكنه يحدث في أحيان كثيرة بسيف القدر وطبيعة الحياة.
السلطة وصور المثقف
قصص المجموعة أو حكاياتها جاءت بداية من العنوان كاشفة عن قصدية لافتة للإشارة إلى نسق ممتد بين الراعي والرعية، فالعلاقة بينهما نسقية قائمة على القهر والبطش من القسيم الأول تجاه القسيم الأخير، فدائما هناك فعل انتهاك واستغلال. ففي ظل ثنائية حتمية لا يمكن الفصل بين طرفيها، نجد كل قسيم منهما يولّد ملامح ارتباط أو إفادة من الآخر. فالملك – في قصة (ذوّاق الملك) – يحتمي بالذواق فرارا من السم الذي يمكن أن يضعه أعداؤه، والذوّاق- رمز الرعية المشدودة للاحتياج- يعيش مساحة زمنية خاصة من الاكتفاء في الطعام والشراب، لا ينغص استمرارها والهناء بها سوى الخوف من القتل بالسم فداء للملك، فالاقتراب من المساواة مع الملك في نوعية الطعام والمكان، يظل اقترابا مقهور دائما بالخوف من الموت.
في واحدة من قصص المجموعة (تمثال الملك) يشعر القارئ أن هناك توجها للكشف عن الكيفية التي تتولّد بها ملامح هذه القداسة، وكيفية استمرارها، فتصبح سبيلا لاستفحال السلطة، وتوحّشها بالتدريج، حتى دون حضورها العيني الملموس. فصناعة الهالة أو القداسة في هذه القصة تُبنى على جزئيتي عدم المعرفة من جانب، والاستنامة والتسليم من جانب آخر. وتأتي الاستنامة من الأجيال الكبيرة في إطار قسيمي الرجال والنساء. فالتمثال الذي وضع في مدخل القرية، حتى تعرف الرعية ملامح راعيها الملك، أصبح وسيلة لمنح البركة، وتقدم له النساء النذور، ويدور الرجال في فلك الولاء الكامل للعلامة (التمثال) المشيرة إلى الملك، ويتحركون ويهبّون دائما للذود عنه.
إذا كانت القداسة يسدلها البشر المحكومون أنفسهم على ممثلي السلطة وصاحبها، فإن هذه السلطة تستند إلى وسيلة أخرى، قد تكون أكثر نجاعة في تمديد زمن استمرارها، تتمثل في صناعة العدو وإرهاب الرعية من خطره الداهم عليهم. في بعض قصص المجموعة هناك اشتغال لافت على فكرة صناعة العدو التي تقوم بها أية سلطة، لاستيلاد مساحة من الخوف، يسهم في ضرورة الإبقاء عليها. فالعدو الذي تصنعه السلطة، وتؤسس وجوده داخل متخيل الرعية، يستخدم بوصفه أداة استبقاء لها، لأنها- أي هذه السلطة- الوحيدة القادرة على القضاء على هذا العدو، وكلما انتهى هذا العدو تمادت السلطة في استنبات ملامح عدو آخر. فجحافل الشيطان – في القصة التي تحمل الاسم ذاته- تطلّ بوصفها الفزّاعة التي تصيب الرعية بالخوف والصمت دون دليل ملموس على وجود هذه الجحافل، لكنها لم تكذّب خطاب السلطة بوصفها حيوانات مفترسة تأكل لحوم البشر.
وجود العدو المصنوع له أثره في سلوك الرعية، وفي وقوفها في مساحة الثبات والصمت، دون مطالبة بحقوق أو إصلاحات، لأن دور السلطة يتعاظم في مواجهة العدو المتخيل المصنوع. فالإحساس بخطر العدو (جحافل الشيطان) يستند إلى مبدأ التخويف الذي يؤدي إلى الصمت، والبعد عن المطالبة بالحقوق، والتحمل الزائد عن الحد، ويشير إلى قيمة الدور الخاص بالسلطة وما تسدله من حماية. ولكن كل ذلك لا يستمرّ، فبعد أن كان الدعاء بالخلاص، وحفظ صاحب السلطة، تسرّب إلى صوت الرعية أشياء أخرى مثل توفير الطعام والدواء، وتوجهوا إلى الحصن المنيع للملك للسماح لهم بمحاربة جحافل الشيطان.
في قصة (مدونو التاريخ) تتجلى صورة من صور المثقف الذي يتبع السلطة، وفي هذا الاتباع هناك استبعاد للحقيقي وإبقاء على الزائف. فصورة المثقف هنا- خوفا أو طمعا- تنتج صوتا تابعا للسلطة، وتغيّب في ظل ذلك صوت المثقف الحر الذي يتحمل الكثير في ظل التمسك بوجهة نظره. قام مدونو التاريخ حين استدعاهم الملك بالتخلص من الحقيقي (المخطوطات الي ترصد الحقيقي بصدق) الذي يشكل خطرا عليهم، وذلك بإخفاء المخطوطات أو حرقها. فهؤلاء المثقفون يشيرون إلى إشكاليات تدوين التاريخ العربي، فكونهم تابعين للسلطة، يجعلهم يستبدلون الحقيقي بالزائف الذي يتماشى مع رؤية السلطة ووجهة نظرها، فقد كتبت هذه المخطوطات في تمجيد صاحب السلطة، مشيرة- ضد الحقيقي- إلى عنايته بالعمران في أنحاء المدينة.
أما في قصة (حاملو اللواء) فيجد القارئ نفسه أمام صورة أخرى من صور المثقف الذي ينتصر لرأيه، ويناضل من أجله، فهؤلاء الكتبة الذين يخرجون، ويقفون متجمهرين أمام قصر الملك للمطالبة بالعدل، يشكلون رموزا للمعرفة، وللمثقف الحقيقي. والقصة تروى- بعد سجنهم والتنكيل بهم- على لسان الوزير التالي الذي جاء بعد الوزير المؤسس للتوجه الثقافي المنتج والمولد لهؤلاء المثقفين، يرويها بوصفه ذا دور في تخليص المملكة وملكها من الكتبة والمثقفين، بوصفهم أعداء يمثلون نزوعا خطرا على السلطة أو الملك. ففتح الكتاتيب وتعليم الناس القراءة والكتابة، وتدوين المخطوطات العلمية والثقافية، كلها من وجهة نظره- أي الوزير الجديد- معاول هدم وتفكيك للسلطة.
الحكاية والمرتكز الفكري
قصص المجموعة تندرج داخل بنية الحكاية، ومن سمات الحكاية غياب فاعلية الصوت والحضور الفعلي للشخصيات. فكل هذا مغيّب تحت سطوة الحكي والتوجه نحو سرد القصة أو الحكاية بشكل مباشر وبسيط، فهي – القصص أو الحكايات داخل المجموعة – أقرب إلى الأخبار المنقولة، والخبر مرتبط بالنقل والإخبار، تخايله دائما وتوجهه أكثر من العناية ببنيته الرسالة أو الفكرة، يؤيد ذلك الطبيعة التوجيهية للغلاف، وللعنوان، وبنية النصوص. فمع الإخبار ليس هناك وجود حقيقي للشخصية بصوتها، فوجودها مغلّف، وداخل دائرة تمثيل أكبر، تغيّر وتحدّ من ملامحها وفقا لوجودها الحكائي الجديد، فيغيب صوتها ووجودها الدافق بالفاعلية.
في حكايات المجموعة نجد أن أسماء الشخصيات مغيّبة، وأن الحضور الأكبر للصفات أو للألقاب، فألقاب مثل (ملك) أو (ملكة) أو (أمير) أو (كاتب) أو (كتبة)، لا تحيل إلى متخيل فردي به خصوصية، لكنها تحيل إلى متخيل وظيفي يرتبط باللقب، وما يسدله من دلالات مؤسسة. وهناك أيضا في ظل حضور بنية الحكاية تغييب للمكان والزمان، وكأن هذه الحكايات فقدت محدوديتها في الدلالة على زمن أو مكان محددين، واكتسبت فوق ذلك حضورا جاهزا يحيلها إلى بنى أيقونية في المتخيل، بنى دائمة الحضور والحدوث والتكرار.
الحكايات تتوجه نحو الفكرة، دون عناية فائقة بجزئيات بنائية أخرى، وتصبح مرتكزا أو مرتكزات متوالية، منها الإشارة إلى صورة الحاكم في إطار جدل العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فصورته بشكل عام في قصص المجموعة لا تخلو من سلبية، وإن كانت سلبية مبطّنة غير مباشرة، فهي سلبية المؤسس النسقي الذي يلازم الإنسان العربي. فأن يكون حاكم مملكة الجبل في واحدة من قصص المجموعة في اختيار قائم على الصدفة هاربا بمنطاد، فهذا يؤسس لعملية الاختيار الدائمة، تقول القصة عنه (كان مجرد لصّ فار من العدالة على متن منطاد مسروق). فصورة صاحب السلطة بعيدا عن التقديس الذي يتجلى في مملكة الجبل (في مصاف الآلهة)، أو (كأنه ملك أرسله الرب إليهم)، لأن هذا التقديس مصنوع، لا تخلو من سلبية في الشكل الباطني.
الكتابة القصصية تزيح وتعرّي السلطة الشكلية المستندة والمحتمية بأذرعها وبطانتها، وتصل إلى العمق الدقيق الذي لا يخلو من ضعف، ففي كل القصص هناك خوف وذعر، وهذا الخوف يعري استقامة الشجاعة والهدوء، وتتشكّل بسبب هذا الخوف والذعر مساحات الاقتراب بين الراعي والرعية، لاستغلالهم واتخاذهم أداة للحماية. ففي قصة (الملك المزيّف) لا تثبت عملية الاستبدال بين الملك الحقيقي والمزيّف، فارقا كبيرا، أو اختلافا لافتا، فصارت حياة المملكة كما هي، بل زادت الحكاية في نهايتها، لنفي أية قيمة وازنة، بتحويل المزيف إلى حقيقي، والحقيقي إلى مزيف، وهذا يشير إلى أن أي شخص يمكن أن يكون ملكا، فالصدف والظروف، ومجمل الخطابات الموالية لها دور كبير في إسدال مساحة من الاختلاف والقداسة، فالميزة هنا ليست ميزة ذاتية.
وتظهر في قصص أو حكايات المجموعة فكرة مركزية، هي معاداة السلطة للمعرفة بكل أشكالها، لأن المعرفة بكل تجلياتها تمثل منطلقا للتغيير، والسلطة في كل أحوالها باحثة عن الثبات محتمية به، فهي دائما في وضع مضاد لكل مغاير، باحثة عن كل مستقرّ. فإتقان البنت الأولى في قصة (وريثة العرش) لصناعة عقد من الألماس، وإتقان الثانية في القصة ذاتها لصناعة الطعام بأشكال وأصناف مختلفة، يندرجان في إطار المقرر والمستقر فيما يخص المرأة. ولكن إتقان البنت الأخيرة للقص والسرد والكتاب، يمثل خروجا عن المؤسس، ولهذا نجد رد فعل الأب/ الملك تجاه البنتين الأوليين متسما بالسعادة والقبول، ولكن مع الأخيرة يتخذ موقفا شديدا. فما تقوم به منفتح على المعرفة، ومن ثم جاء رد فعل الملك ممثل السلطة مساويا لمساحة الخروج، فقد أمر حرّاسه بوضعها في زنزانة.
تشتغل بعض قصص أو حكايات المجموعة على انتقام مبطن تمثيلي، تقوم به الطبقات الهامشية والمهمشة ضد السلطة، ويبدو أن ارتباط الحكايات بالنسق التراثي الشعبي يمكن أن يكون سببا رئيسا في تجلي هذا الانتقام أو التمثيل المبطن لكل أشكال السلطة. وتتعدد صور هذا الانتقام، ربما يعدّ أولها واضحا في إسدال المشابهة بين السلطة وممثليها والآخرين من الشعب والمهمشين. ففي قصة (المرايا) تذوب المغايرة أو التراتب بين طبقة الحاكم والمحكوم، في ميلاد الأميرة بنت الملكة بوجه مشوّه به ثآليل، وتقوم السلطة بتغييب هذا التشويه، من خلال وسائل عديدة، ولا يتمّ الكشف عنه إلا في إطار مساحة من التشابه.
فالانتقام في هذه القصة انتقام وخلاص مزدوج في إطارين، الإطار الأول يرتبط بانتقام الهامش من السلطة، والإطار الأخير يتمثل في الانتصار للنسوي في مقابل السلطة الذكورية المؤسسة. لكن في قصص أخرى يبدو أن الانتقام أو القدرة في إحلال قسيم محل الآخر، غالبا لا يتحقق إلا بفعل قوة القدر، أو طبيعة الحياة.
ليلى عبد الله: “فهرس الملوك”
دار مرايا، الكويت 2024
81 صفحة.