التنوع الثقافي للمغرب الشرقي الجنوبي: لقاء بين الطبيعة والتاريخ
مصطفى لغتيري
منذ زمن بعيد استبد بي الشوق لزيارة صحراء مرزوكة، تلك القابعة في المغرب الشرقي الجنوبي، غير بعيد عن الحدود المغربية الجزائرية، وكان الشغف يدفعني للقيام بهذه الزيارة، لأتأكد من مدى تطابق الصورة الفانتازية، التي تكونت في ذهني مع تلك التي يجود بها الواقع، هذه الصورة التي ترسخت عبر الأخبار المنقولة سمعا عن ذلك الغروب الخرافي، الذي يعد فريدا من نوعه، والذي تتميز به المنطقة، بالإضافة إلى البحيرة التي تقبع وسط الكثبان الرملية، وفي أعماق الذاكرة، محققة بذلك مفارقة صارخة لا يكاد يفسرها سوى» السحر» في بعده الأنثروبولوجي والجمالي.
هكذا تحققت أخيرا الأمنية، وها أنذا أنهب الطريق نهبا، أسابق الزمن من أجل أن أظفر بالمشهد الأخاذ، المغري بجاذبيته وسحره، فكانت الانطلاقة من الدار البيضاء، والموعد قرب محطة الدار البيضاء للمسافرين، التي لبست حلة قشيبة منذ أن حط بها القطار شديد السرعة الذي اختار له المغاربة اسم البراق، وهي تسمية سحرية أخرى ارتبطت بالنبي محمد، حين انتقل في ذلك الزمان البعيد بسرعة البرق من مكة إلى القدس عبر وسيلة «البراق»، وهو حصان مجنح، تمنيت لو كنت محظوظا وحزت شبيها له، لينقلني بسرعة البرق إلى وجهتي المرتجاة.
المسافة طويلة ومتعبة، لكن الرفقة الطيبة المكونة من اساتذة واستاذات وأقاربهم، خففت عبء المسافة، وقربت بعد الشقة، وكان اول لقائي بالمكان من خلال مدينة الرشيدية، التي غيرت اسمها القديم، منذ زمن ليس بعيدا ليتحول من قصر السوق إلى الرشيدية، فاحتفت المدينة بالاسم واحتضنه أهلها بمحبة، حتى اختفى الاسم القديم، فالقلة القلية من الناس من تذكره، وتحن إليه.
ورغم الصباح الباكر استقبلتنا الرشيدية باحضانها المفتوحة وأكرمتنا بإفطار شهي، ثم استأنفنا الطريق نحو مدينة أرفود، حيث كانت الإقامة في فندق جميل يحاكي المنطقة في معمارها، وغطائها النباتي وكرم أخلاق سكانها، فكانت الفرصة سانحة بعد ذلك لزيارة مدينة الريصاني القريبة، وقد تميزت بزيارة ضريح مولاي علي الشريف مؤسس الدولة العلوية، ويعتبر كذلك الجد الخامس عشر للملك محمد السادس، ثم كانت الانطلاقة نحو الكثبان الرملية، التي بلغناها في وقت يتيح لنا مشاهدة الغروب الخرافي للمنطقة، وقد كانت رحلتنا وسط الكثبان عبر الجبال، التي «سالت بأعناقها الأباطح» كما قال الشعر العربي القديم. وقد ازداد رونق الزيارة بالأكلة الطريفة التي تناولتها هناك وتدعى «المدفونة»، وقد حرص أصحاب المطعم على أن تكون وجبة الغداء مرفوقة بأنغام موسيقية أمازيغية محلية، فزادت اللحظة بهاء وتألقا.
الغروب في مرزوكة ليس أسطوريا فحسب، بل ملهما، يحفز المخيلة، ويزيح عن النفس همومها، فيشعر المرء حقيقة أن البراق النبوي قد حل هنا وأخذه في رحلة خيالية لا تخطر للإنسان على بال، حينها يمكن للقصائد ان تندلق، والأغنية الأمازيغية أن تنتقل من فم إلى فم، حتى تصبح كورالا يرتفع إيقاعه في أجواء الصحراء.
كانت المتعة مضاعة، إذ تحققت الرفقة الطيبة مرافقة لمشاهد طبيعية تسلب الألباب. لتتحالف مع المناظر التي ارتشفت تفاصيلها الأعين سابقا، خاصة غابة النخيل التي تشكل واحة جميلة، تعد أكبر واحة نخيل في افريقيا، وتحمل اسم أولاد شاكر.
حقيقة لا يكف المغرب الشرقي الجنوبي يفاجئ الزائر بمفاجآته المتعددة، ومنها مضارب تودغا في ضاحية مدينة تنغير، التي فتحت لنا طريقا في الجبل فذكرتني بعصا موسىن التي شقت طريقا وسط البحر، فتساءلت إن كانت المياه المتدفقة في هذه المضارب بعضا من تلك المياه التي خجلت من عصا موسى فنضبت من تلقاء ذاتها، واكتفت بجداول مائية تعلن عن نفسها باستحياء. وبما ان الضيافة لا تكتمل إلا إذا رافقها الكرم الأمازيغي، فكان الطاجين المحلي عنوان هذا الترحيب، فزاد بعدا آخر من أبعاد الفرح بهذا المغرب الأمازيغي المكتظ بجمال تفاصيله الثقافية والطبيعية.
في قلعة مك نة الجاثمة في البين بين، بين تنغير وورزازات كانت الاهتمام منصبا على ما تقدمه لنا المدينة من هدايا، متمثلة تحديدا في منتوجاتها المستخلصة من الورود، التي تعرف بها المنطقة وقد أبدع أهلها، خاصة النساء منهن في إنتاج أنواع من العطور والكريمات والزيوت ومساحيق التزيين، التي تستمد مادتها الخام من عطاء الطبيعة النباتي اللامحدود، خاصة ما يتعلق بالورود والحناء.
ثم ما لبثت مدينة ورزازات أن فتحت لنا أحضانها، وهي المعروفة بهدوئها المشهور ومعمارها الفريد ونظافتها التي يضرب بها المثل، فاستبد بنا هناك التاريخ من خلال تركيزنا في جولتنا على قصبة تاوريت المنشأة في القرن الثامن عشر، وقد اتخذها الباشا الكلاوي الشهير مقرا له لتدبير شؤون منطقة وادي درعة، وقد عرف الرجل بقسوته في ممارسة السلطة وتواطؤه مع الاستعمار الفرنسي لبسط نفوذه على المغرب عموما، والمنطقة خصوصا.
كانت القصبة من خلال اختيار مكان بنائها وتعدد غرفها وأروقتها توحي بجبروت الرجل الذي حكم المنطقة بيد من حديد، وما يزال هناك ما يدل على ذلك، ومنه المدفع الذي أهداه الألمان ملتمسين وده لنيل بعض الحظوة في المنطقة، وقد وثق معرض للفن التشكيلي مقام داخل القصبة لملامح الحياة في فترة حكم الباشا الكلاوي للمنطقة. ولم يمنعنا طول السفر من تخصيص بعض من الوقت لزيارة قصبة أيت بنحدو، التي تميزت بعرض جميل للحلي والزرابي الأمازيغية، بطريقة تعبر عن الغنى الثقافي المبهر للمنطقة.