ثقافة وفنون

محمد جابر الأنصاري… أديب سرقه الفكر

محمد جابر الأنصاري… أديب سرقه الفكر

بروين حبيب

بى عام 2024 أن يغادرنا إلا برفقة أيقونتنا في البحرين المفكر محمد جابر الأنصاري، الذي قلت عنه في مقال في هذه الجريدة «لا تذكر البحرين إلا ويذكر إبراهيم العريض ومحمد جابر الأنصاري وقاسم حداد وضلع المربع الرابع خالد الشيخ». ومع أنه لم تنقض على وفاته، رحمه الله، سوى بضعة أيام، إلا أن سيل المقالات عنه في الجرائد ووسائل التواصل ينبئنا أيَّ قامة علمية كان، فليس بمبالغ فيه ولا مستغرب أن أُطلقَ عليه لقب «ابن خلدون الشرق» لما عُرف عنه من اهتمام شديد بالظاهرة الخلدونية وتفكيكها. وقد نال كتابه الصغير نسبيا (160 صفحة) «مساءلة الهزيمة: جديد العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية»، حصة الأسد من الكتابة عن منجز الأنصاري، إضافة إلى فكرة التوفيقية التي تناولها في عدة مقالات وكانت محور أطروحته للدكتوراه سنة 1979، حيث كان عنوانها «الاتجاهات التوفيقية في الفكر العربي المعاصر 1945-1970 (مصر والهلال الخصيب)» وقد راجع الأنصاري أطروحته ونشرها في كتاب بعد سبعة عشر عاما من مناقشتها بعنوان «الفكر العربي وصراع الأضداد»، مع عنوان فرعي يحيل إلى عنوان الأطروحة الأصلي هو «تشخيص حالة اللّا حسم في الحياة العربية والاحتواء التوفيقي للجدليات المحظورة».

ما لفت نظري في ما كُتب عن محمد جابر الأنصاري قبل وبعد وفاته الجانب المغيّب من كتاباته، أي الجانب الأدبي شعرا وقصة ونقدا أدبيا، ورغم أنني لم أعاصر فترة تألق الأنصاري الذهبية، فقد بدأت أقرأ له حين أدار ظهره للأدب وتفرغ للتنظير الفكري، إلا أن ما كان يصادفني من مقالات قديمة في مجلة «الدوحة» القطرية، خاصة النقدية منها مثل سلسلته عن أدباء الخليج، إضافة إلى ما كنت أسمعه من أساتذتي، ومن الأدباء الذين أعرفهم عن دوره في تأسيس «أسرة الأدباء والكتاب» في البحرين، وترؤسه لها وتشجيع المواهب الشابة، أعطاني فكرة وافية عن هذا الجانب الذي لا يلتفت إليه كثيرا دارسو فكر محمد جابر الأنصاري، وكمثال على ذلك فقد وجدت في عشرات المقالات التي كتبت بعد وفاته أنه تحصل على شهادة الماجستير برسالة في الأدب الأندلسي سنة 1966 من الجامعة الأمريكية في بيروت، من دون ذكرِ عنوان الموضوع الذي درسه، وبدافع الفضول العلمي، وجدت أن رسالته للماجستير كانت بعنوان «ابن سعيد المغربي حياته وآثاره»، ولا نحتاج إلى تفكير كبير لمعرفة سبب اختياره لهذا الموضوع، إذا ما علمنا أن المشرف عليه كان إحسان عباس، الذي كان يحقق في تلك الفترة الموسوعة الأندلسية «نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب» للمقّري التلمساني، وفيها أيضا ألف كتابه الشهير «تاريخ الأدب الأندلسي: عصر سيادة قرطبة»، والظاهر أن الدراسات التراثية وتحقيق المخطوطات لم تستهو الأنصاري.

لذلك أعرض عنها لسببين: أولهما غلبة اهتماماته الفكرية على الأدبية، ما جعله يختار موضوعا فلسفيا فكريا للدكتوراه، ويتخلى عن الدراسات الأدبية، بل أصبحت كل مقالاته إلا ما ندر وكتبه تدور في الدائرة السياسية الاجتماعية الفكرية بعد نيله الدكتوراه، والسبب الثاني أن الروح التجديدية عند محمد جابر الأنصاري، جعلته يفضل الجوانب الحداثية التي وجد ضالته فيها عند أستاذه أيضا في الجامعة الأمريكية الشاعر الحداثي خليل حاوي، أكثر من الجوانب التراثية التي كان إحسان عباس ومحمد يوسف نجم سادنيها الكبيرين في الجامعة الأمريكية. وقد كتب عن هذا التأثر بحاوي، الشاعر قاسم حداد في مقال له في هذه الجريدة بعنوان «محمد جابر الأنصاري: تحولات النهج الفكري» جاء فيه «تعرّف، عن كثب، على تجربة الشعر العربي الحديث، متمثلة في واحد من أبرز أسمائها اللبنانية، الشاعر خليل حاوي خصوصاً، ربما لأنه أستاذه في الجامعة، فقد كان مولعا به ويعتبره النموذج الأمثل لحداثة شعر الستينيات»، وقد ظهر هذا الإعجاب والتأثر في كتابات نقدية مبكرة للأنصاري حين تناول قصيدة «ضباب وبروق» بمقال نقدي بعنوان «نظرات في شعر حاوي»، نشره قبل انتحار خليل حاوي بعشر سنوات في مجلة «الآداب» البيروتية.

أما حادثة انتحار الشاعر حاوي احتجاجا على اجتياح بيروت سنة 1982 فقد انحفرت في وجدان محمد جابر الأنصاري فكتب عنها في مجلة «الدوحة» بعد شهر من الحادثة مقالا مهماً بعنوان «من الخنادق إلى الفنادق: مأساة أمّة في مأساة شاعر»، جاء فيه «عندما ينتحر شاعر في أمة من أجل قضيتها، لا يكون ذلك مدعاة يأس، بل دليلا على بدء دبيب الحياة والحيوية والانبعاث في الجسم العقيم المتجمد.. هكذا علمنا خليل حاوي». ثم عاد الأنصاري بعد سنة من مقاله هذا ليتأمل انتحار أستاذه بعقله لا بعاطفته في مقال له بعنوان «المنتحرون العرب: إني أتهم هذا المشبوه بقتلهم»، موضحا لنا أنه في مقام يؤهله لتفسير دوافع هذا الفعل التراجيدي حين يقول: «أعرف خليل حاوي عن كثب وبشكل شبه حمیم، عرفته أيام الجامعة، كنت طالبا وكان أستاذا، وعرفته بعد ذلك صديقا ومحاورا، وكتبت نقدا لبعض أشعاره في مجلة «الآداب» وغيرها، وتنامت بيننا صداقة مودة مع صداقة الفكر»، فقد رأى الأنصاري في خليل حاوي مشروع انتحار، بل كان يرى في بيت أدونيس «مهيار وجه خانه عاشقوه» تلخيصا دقيقا لحياة خليل حاوي. وحتى بعد ست سنوات كاملة من الانتحار، بقي محمد جابر الأنصاري يبدي ويعيد في هذه القضية فكتب مقالا مهما في مجلة «العربي» عنوانه «خليل حاوي في ذكراه السادسة.. أربعة خيوط في نسيج انتحار شاعر» حاول فيه استنتاج أسباب انتحار خليل حاوي من شعره.
هذا التأثر بحداثة خليل حاوي لاحظه عارفو الأنصاري منذ رجوعه من بيروت بعد إنجاز رسالة ماجستير بعيدةٍ عن هذا الشغف الحداثي، فشد الأنصاري على أيدي الشباب، الذين كانوا يكتبون القصيدة الحديثة آنذاك، كما شهد بذلك الشاعر علي عبد الله خليفة في وصف تلك المرحلة «فإذا بكاتب جديد هو محمد جابر الأنصاري، يفاجئنا بسلسلة مقالات نقدية أسبوعية بعنوان «مسامرات جاحظية» لمواصلة النظر في النتاج الأدبي الجديد مستعرضاً الأعمال التي نشرت مُبشرا بحركة أدبية جديدة، جاهدا في توجيهها من مقالة إلى أخرى»، كما شهدت له أيضا معركته الأدبية مع الصحافي محمود المردي، حيث دافع الأنصاري عن الشعراء والقاصين الجدد. ولكن قاسم حداد يرى أن وظائف محمد جابر الأنصاري الرسمية و»آثار عبء المسؤوليات الحكومية التي أثقلتْ كاهله في سنوات عمله الفكري»، حولته من أبرز داعمي تجارب الحداثة في الحركة الأدبية الجديدة في البحرين بنقده التشجيعي، في بداياتها، إلى ناقد متشدد يرى الحداثة في الشعر البحريني «موجة «عابرة» من الأدونيسية، وحالات «يساروية» من القفز في الهواء دون إجادة الرقص».

ومن يقرأ بعض مقالات الأنصاري في تلك الفترة مثل مقال «ليس أدبا غامضا، بل مضجرا» يؤيد ما ذهب إليه قاسم حداد. قد يكون الجانب النقدي في شخصية محمد جابر الأنصاري أوفر حظا من الجانب الإبداعي، فقلّما يُذكر أنه كتب في بداياته الشعر والقصة القصيرة، وقد احتفظت لنا مجلة «البيان» التي كانت تصدر عن رابطة أدباء الكويت في أعدادها التي كانت تصدر منتصف الستينيات ببعض كتاباته، مثلا نجد له قصيدة من شعر التفعيلة بعنوان «إبحار عقيم» وأخرى بعنوان «رحلة صحراوية لطائر بحري»، كما نشر محاورة شعرية بعنوان «قدر وصبايا وشموع مطفأة»، والظاهر أن هذه المسرحَةَ في كتابة القصيدة هي الشكل الذي كان يرتاح له أكثر، وإن لم نعدم بعض الأمثلة من أن محمد جابر الأنصاري كتب القصيدة العمودية، وفي قصيدته «ميلاد أوال» التي لُحنت وأنشدت في تكريمه قبل سنوات أفضل مثال ومنها قوله «هام الخليج بغادة الصحراء.. فإذا برجع الحب همس لقاء/ نبتت أوال للمفاخر والعلا.. أكرم بها من نبتة غراء/ جمعت تراث المجد من أطرافه.. جود الخليج وعزة الصحراء». كما عثرت على قصتين قصيرتين في مجلة «البيان» أيضا واحدة بعنوان «سر الطائر البحري» والأخرى بعنوان «البغال والجفاف والمطر»، وهما نموذجان كافيان للدلالة على موهبة قصصية متأصلة وأدها صاحبها لصالح منجزه الفكري الكبير.
وأجدني في الأخير أضم صوتي إلى صوت الشاعر علي عبد الله خليفة حين كتب: «حري بنا أن نعنى بجمع الآثار الفكرية والأدبية المطبوع منها والمخطوط للأنصاري وإخضاعها للتحليل والفرز لتكون مادة أصيلة من مواد الدرس في جامعاتنا، وأفكارا للحوار والمناقشة في منتدياتنا، وفاء مستحقا لمفكر وأستاذ عربي جليل».

شاعرة وإعلامية من البحرين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب