مقالات
*الاستقلال: دار فوز والمثقف السري* بقلم أحمد محمود أحمد -السودان –
بقلم أحمد محمود أحمد -السودان -
*الاستقلال: كتابة عن دار فوز والمثقف السري*
أحمد محمود أحمد -السودان –
#ملف_الهدف_الثقافي
تحل علينا هذه الأيام ذكرى عزيزة وهي ذكرى استقلال السودان، هذا الاستقلال الذي لعب فيه المثقف دورا بارزا وبغض النظر عن التطور اللاحق، الذي تراجع فيه دور المثقف مفسحا الطريق أمام الطوائف لتسيطر على الحياة العامة..وعنوان هذا المقال الذي ورد فيه دار فوز يطرح السؤال التالي: ما هي دار فوز ومن هي فوز صاحبة الاسم ، وما علاقة كل ذلك بالاستقلال؟ و للإجابة علي ذلك السؤال نقول ابتداء أن دور المرأة غالبا لا يذكر في مسيرة النضال الوطني كثيراً، ولهذا فإن الحديث عن فوز وعن دارها هو بحث وتلمس لذلك الدور، فمن هي فوز؟ فحسب الأستاذ حسن نجيلة وفي كتابه ملامح من المجتمع السوداني، أورد اسم فوز وقال عنها أنها كانت لها دار في الموردة وهذه الدار، نظر إليها الإنجليز ومجتمع أمدرمان آنذاك بكونها كانت داراً أشبه بدور اللهو وتردد عليها بعض الناس، ومن أهم الذين توجهوا إلى هذه الدار يأتي توفيق صالح جبريل وسليمان كشة وعبيد حاج الأمين وإبراهيم بدري، ومحي الدين جمال أبو سيف، وشكل هؤلاء خلية سرية داخل تلك الدار، ولهذا أطلقنا على ذلك المثقف الذي ارتاد تلك الدار المثقف السري الذي يعمل في الخفاء من أجل الاختفاء من البوليس السري الذي كان يراقب حركة الجميع وذهب إلى ذلك المكان خليل فرح وغيره من المثقفين ..الذين اجتمعوا في تلك الدار وفي عام 1929م ووسطهم فوز التي كانت تقوم بخدمتهم وكانوا يقولون الشعر ويغنون وتتحول فوز إلى الملهمة وهذا ما كان في الظاهر، أما في أرض الواقع كان هؤلاء يحفرون عميقا في تربة الاستقلال ويبحثون عن طرق لمواجهة الاستعمار البريطاني وعبر هذه الدار التي أعتقد البعض أنها دار لامرأة (لاهية) برزت في ذلك الزمن أول جمعية كان هدفها مواجهة الاستعمار البريطاني وكانت هذه الجمعية هي جمعية الاتحاد السوداني..كان الأعضاء الأوائل في هذه الجمعية، الذين ذكرناهم سابقا وآخرين، الذين ارتادوا هذه الدار يعتبرون من المثقفين العضويين الذين تفاعلوا مع قضايا مجتمعهم وأدركوا مهمة المثقف، ويعتبر هؤلاء من صغار الموظفين الذين تخرجوا من كلية غردون، التي قصد من إنشائها تخريج موظفين للعمل الإداري وإحلال مكان الموظف المصري بالموظف السوداني.
نبعت كلمة الاتحاد وهي تدلل على الاتحاد مع مصر ضمن رؤية تتصل بضرورة النضال المشترك ضد البريطانيين، حيث سعت هذه الجمعية أي جمعية الاتحاد ومنذ البداية وبجهد فردي في تسفير بعض الطلاب السودانيين سرا إلى مصر من أجل الدراسة حيث شهدت الشقة الكائنة في 14 حارة الجداوي بباب اللوق وصول أول طالبين إليها وهما توفيق أحمد البكري، وبشير عبد الرحمن.
قصد أعضاء جمعية الاتحاد بذلك الاتجاه رفض التعليم البريطاني من جهة وتعزيز الكفاح بين مصر والسودان من جهة ثانية ضد البريطانيين، وكما يقول الأستاذ أبو القاسم حاج حمد فإن هؤلاء الذين وصلوا لمصر من أجل الدراسة عانوا كثيرا نتيجة لمضايقة الإنجليز لهم وقطع سبل العيش عنهم، مما حدا بالطالب حينها توفيق أحمد البكري أن يرسل بهذه الأبيات الشعرية لأعضاء الجمعية في السودان قال فيه:
شكى ما يلاقيه فنفس حزينة وهل تنصت الأسماع للحسرات
تناوبته الاَلام من كل جانب وتقتاده الأحزان مختلفات
فهوْم يسقيه الكرى من كؤوسه وطافت به الأحكام مشتجرات..
وبالرغم من أن وزير المعارف حينها علي ماهر أدرك هذا البعد في العلاقة وكما يؤكد ذلك الأستاذ أبو القاسم حمد وكذلك الأمير عمر طوسون مساعدا لهؤلاء الطلبة، إلا أن معاناة الطلبة السودانيين استمرت في مصر حتى في زمن الحكومات الوطنية..المهم في أمر فوز وجمعية الاتحاد كانت فوز هي غطاء لهؤلاء الذين اجتمعوا في دارها وخططوا لمواجهة الاستعمار في سرية تامة حيث شبْه البعض فوز ودارها بدار مي زيادة التي تحلق حولها الأدباء المصريون، وتحلق الأدباء والشعراء السودانيون حول فوز وحولوا تلك الدار إلى خلية سياسية ظاهرها الغناء والشعر حيث يتجلى خليل فرح وتوفيق صالح جبريل وغيرهم في مثاقفة أدبية وفنية جميلة يتخللها حضور فوز وتلقاءيتها الجاذبة مما نستطيع تشبيه ذلك بحضور الفن والشعر والمرأة وكل ذلك من أجل الاستقلال، وهي أدوات يمكن أن نطلق عليها أدوات التخفي من أجل الوصول للهدف الأسمى.. وبهذا المعنى فإن جمعية الاتحاد كانت خلية نحل تعمل على توثيق النضال مع مصر، التي كان يسيطر عليها الباشوات، الذين تقاصروا عن المفهوم الذي طرحته جمعية الاتحاد حول وحدة النضال بين مصر والسودان..
ذهب بعض أعضاء هذه الجمعية باتجاه تكوين جمعية أخرى انتهجت العمل العلني وهي جمعية اللواء الأبيض، التي ترأسها البطل علي عبد اللطيف، التي دخلت مع الاستعمار في مواجهات حاسمة في عام 1924م..
قاد علي عبد اللطيف جمعية اللواء الأبيض التي كانت نتاج وتطور لجمعية الاتحاد، عبرت هاتان الجمعيتان عن وعي المثقف تجاه قضايا السودان بالرغم من بشاعة البطش الذي قامت به السلطات البريطانية تجاه تحركات جمعية اللواء الأبيض واعتقال أعضائها والبطش بالثوار الذين واجهوا عسكر الإنجليز..
الجدير بالذكر أن أول مظاهرة سياسية اندلعت في زمن الإنجليز كانت نتيجة إيفاد وفد لمصر يحمل مذكرة حدد فيها مثقف جمعية اللواء الأبيض رؤيته تجاه حكم الإنجليز للسودان وبعدم أحقيتهم في ذلك، وعندما تم إرجاع ذلك الوفد انطلقت أول مظاهرة في السودان وفي يوم 19 يونيو في عام 1924م شاركت فيها قطاعات المجتمع المختلفة وفي كل المدن….وفي هذا الخصوص يقول الأستاذ الراحل أبو القاسم حاج حمد الآتي عن تلك المرحلة: ( حارب المثقف السوداني في بواكير ميلاده كل أشكال التجزئة وعلاقات التخلف، أدان الطائفية دون أن يهاجم حقيقة التصوف بأعماقها الفلسفية والدينية، أدان القبلية دون أن يهاجم القبائل، وأدان الإقليمية وسعى بكل الوسائل إلى إحلال وعي وطني بديل، كتب وخطب وناقش وحاور وسهر وتظاهر وهتف وغنى فكانت ثورة 1924م تجسيدا حيا لدور أولئك الرواد الأوائل، حولوا الشعب إلى قبيلة زعيمها علي عبد اللطيف وإلى طريقة صوفية شيخها علي عبد اللطيف وتجاوبت معهم جماهير المدن وعمالها وطلابها)…ويختم الأستاذ ابو القاسم حمد حديثه بالقول( وكما كانت القفزة عالية جاءت السقطة مؤلمة، تحالفت الإدارة البريطانية وقيادات الطوائف وقيادات القبائل واستنفروا كل ولاءات التجزئة والتخلف لتطويق حركة المثقفين والقضاء عليها)..وبهذا المعنى فإن ميلاد جمعية الاتحاد في تلك الدار التي تديرها فوز كانت الركيزة الأولى لحركة المثقف تجاه الاستقلال، ساعدت فوز هؤلاء المثقفين في التخفي من عين البوليس السري، وكانت تدرك ما يقومون به ولكنها لم تكشف سر هؤلاء للبوليس السري، ومن المؤسف أن من كشف سرهم كان واحدا منهم وسكتوا عن كشف اسمه نتيجة لحالة الوعي التي تمتع بها أعضاء تلك الجمعية .. في الختام وبغض النظر عن ما قيل حول فوز إلا أنها لعبت دورا محوريا في بروز أول خلية سرية وضعت حجر الأساس لمواجهة الاستعمار وشكلت وعيا باتجاه العلاقة مع مصر من حيث الاسم، أي جمعية الاتحاد ومن حيث الجوهر، أي وحدة النضال بين شعبي الوادي عبر تلك المرحلة التي سيطر فيها الإنجليز على البلدين..
*هامش*: استفاد كاتب هذا المقال من كتابات الأساتذة : أبو القاسم حاج حمد، والأستاذ حسن نجيلة، والأستاذ بابكر بدري..