سرديات السلطة وفاعلية النقد الثقافي: سوريا نموذجا
سرديات السلطة وفاعلية النقد الثقافي: سوريا نموذجا
علي حسن الفواز
إذا اعتبرنا الحداثة «سردية كبرى» فإن ما بعدها سيكون نقدا وتقويضا لها، وتجاوزا على مركزيتها النسقية، وباتجاه يُعطي للنقد فاعلية استثنائية على مستوى إرجاء الثابت، أو على مستوى التفكير بإعادة تشكيل العالم والأفكار في نصوص أخرى، أو اختزالها في سرديات صغرى، أو على مستوى تهديم أشكال أو أنماط مهيمنة مثل السلطة، والمعسكر والأيديولوجيا، التي قد يدفع نقدها إلى تسويغِ نوعٍ آخر من أنواع العنف..
نقد السلطة وتقويضها، عبر التغيير الثوري أو الانقلابي هو المجال الإجرائي الذي بات علامة عربية في مواجهة أنماط بنيات الحداثة التقليدية، بما فيها الحداثة المشغولة بمفاهيم غامضة وماكرة مثل المدنية والعلمانية، فهذه السلطة، في مثالها العربي، ليست بعيدة عن السرديات الكبرى التي تكرست عبر العصاب العسكري والأيديولوجي والطائفي والعائلي، حتى بدا الحديث عن تغييرها وكأنه خطيئة أنطولوجية، رغم أن هذه السلطة قد فسدت بسبب «التأرخن» غير المشروع، وباتت كتلتها السياسية صلبة وقاسية وغير مستعدة للإصلاح والتنوير وتجديد جهازها السياسي والإداري، وحتى الأيديولوجي، لأن مكوثها في التاريخ، وفي الخطاب، وفي العصاب الحاكم تحول إلى ما يشبه المكوث الإيهامي في المقدس..
ما بعد «الربيع العربي» كشف عن صراع عميق بين السرديات ذاتها، سردية التاريخ، وسردية السلطة والجماعة والعسكر، وبالشكل الذي وضع جماعة المركز أمام خيارات تمثيل تعقيدات هذا الصراع، بين الحفاظ على التاريخ بوصفه الصياني، حيث تملك السلطة جهازها القامع، أو بين التفريغ المؤسساتي والقانوني والأخلاقي، حيث يؤدي انكسار السردية الكبرى للسلطة ومعسكرها إلى إنتاج سرديات صغرى مسكونة بعصاب «الهويات القاتلة والمقتولة» وبالشكل الذي يفقد فيه مفهوم «الأمة» وظيفته التداولية، في نسق الحداثة، وحتى في مقاربة الأطروحات الثقافية لما بعد الحداثة، حول «نقد السلطة» وعلاقة ذلك بالتمثيل الثقافي للتنوع والتعدد، وبفاعلية الدولة الناجحة عبر تشكيلها المؤسساتي، وعبر إدارتها للمختلف والمتنوع على أساس وجود الجامع الثقافي لقيم المواطنة والمشاركة والحريات والحقوق والقوانين..
السلطة السورية القديمة أنموذجا
قد يبدو السقوط السياسي للدولة القديمة في سوريا لا علاقة مباشرة له بالربيع العربي، لكنه ليس بعيدا تماما عنه، فبقدر ارتباطه بالسرديات الغامضة التي صنعتها تلك السلطة حول النضال القومي والتحرير والأمن والعروبة، فإنه كان يرتبط بتاريخ طويل للمعارضة السياسية، والمعارضة العسكرية، وهذا ما أفقد تلك السلطة القدرة على تكريس قوة مشروعها وسط خيبات وهزائم عربية متلاحقة، فتحولت عبر لعبة «الخطاب» إلى «سلطة» حكم تدار بالعنف وبرد الفعل، والسجون، والبحث عن تحالفات دولية وإقليمية صعبة، مثلما أفقدها القدرة على القبول بالنقد والمراجعة، لوجود قوى ضاغطة داخل جهازها العسكري والسياسي والأيديولوجي، ما أوهم بأن صلابتها الموهومة، توحي بأن سقوطها سيعني الدخول في الفراغ والمجهول، وبالتالي تكرار أحداث الربيع العربي وتشظياته في هذه الدولة أو تلك، لكن الحالة السورية تظل لها تعقيداتها الخاصة، وإشكالاتها السياسية والأنثروبولوجية، ولها تاريخ حافل بالانقلابات العسكرية، وبظروفها الصراعية مع إسرائيل، وعقدة حرب 1967، فضلا عن تأثير العامل الفلسطيني وتعقيداته على طبيعة صياغة خطابها القومي، وعلاقتها بالتحالفات الجيوسياسية الدولية..
السقوط السياسي فضح كثيرا من تلك المرجعيات، وعرّاها من أوهامها، فبقطع النظر عمن قام بالتغيير، والكيفية التي جرت فيها الأحداث، فإن النتائج ظلت تتطلب وعيا استثنائيا بطبيعة هذا التغيير، ومدى تأثير العوامل الخارجية فيه، من خلال الدعم والاحتضان والمشاركة، إلا أن العامل الداخلي كان هو الفاعل الحقيقي، إذ تحوّل السأم الاجتماعي، والرثاثة الاقتصادية والعنف السياسي، إلى دوافع للتفكير بصوت عال، وإلى ممارسة نقدية صاخبة، اسهمت في تحجيم رفض التغيير ومقاومته، بما فيها مقاومة الجهات التي صنعتها السلطة وكرستها كجزء من النمط الحاكم..
لقد كشف التغيير عن مشكلة معقدة وتاريخية اسمها السلطة، وعن علاقة هذه السلطة بالقانون والمجتمع والأخلاق، فالسلطة لا تصنع لوحدها «الدولة» لأن الدولة مفهوم شامل، ويتطلب الحاضن الأكبر والفاعل للأمة/ المجتمع، فحين تتغول تلك الدولة عبر السلطة، فإن المجتمع يفقد دوره التكويني، والمؤسساتي والنقدي، وبما يجعل المؤسسات الحاكمة/ مؤسسات السلطة أمام مواجهة نقدية وأخلاقية، لاسيما وأن تلك المؤسسات الصلبة ذات تكوين مركزي/ عقائدي/ أيديولوجي/ عصابي، عمد إلى الاستئثار بآلية الحكم تحت يافطة «الضبط الوطني» ومواجهة الآخر/ العدو/ الإمبريالي/ العولمي.
السلطة والحداثة وما بعدها
نقد السلطة يعني نقد مركزيتها، ومراجعة تاريخها، لكن ذلك لا يعني التغافل عن السياق الذي تشكلت فيه السلطة، فهذه الظاهرة من أكثر العلل التاريخية التي ظلت غائبة عن المراجعة «الأنتلجنسياوية» وعن أغلب أدبياتها، وأحسب أن تغول ظاهرة السلطة العربية ليس بعيدا عن «رثاثة» ظاهرة الثقافة، وربما تماهى كثير من مؤسساتها مع السلطة، تحت ضغوط شتى، مثل الإغراء والترهيب والعجز والانتهازية، وهذا ما نخشاه من تداعيات ما يحدث بعد أي انقلاب عسكري، أو تغيير، لاسيما وأن أحداث الربيع العربي كشفت عن نكوص تاريخي كبير إلى التاريخ والعصاب والنمط، مما أسهم في خلل فكرة الدولة، وفي تهديد الحقوق الطبيعية والسياسية للإنسان.
تثير علاقة الحالة السورية بالجماعات الأصولية، جدلا حول العلاقة مع مفهوم التغيير، ومع الجدية في مراجعة ونقد سياسات وتاريخ السلطة القديمة، فتقويض سلطة بشار الأسد لا يعني الدخول إلى «عصر ما بعد حداثة افتراضية» لعدم وجود البيئة المناسبة للنشوء والدخول، فضلا عن أن أنماط السلطات العربية لم تتخلص بعد من لا وعي التاريخ، ومن «عقدة بن خلدون» حول العصاب، وهو ما يعني أن التسرب النسقي للأيديولوجيا السلفية سيظل قائما، وهو ما يجعل إغواء جر السلطة مرة أخرى إلى العصاب وأيديولوجيات المركز والطائفة والقومية، أمرا واردا، والذي سيعيد التشاؤم حول التعاطي مع إمكانية التغيير، وتحويل صدمة هذا التغيير إلى لحظة فارقة في الزمن السياسي/ الحضاري، وفي إحداث هزة «بنيوية» في تداوليات مفاهيم ـ الديمقراطية، الهوية، المشاركة، الحرية، الحقوق، السلم الأهلي، المجتمع المدني- لأن تعثّر ذلك سيعيد إنتاج مركزيات العنف والاستبداد، وعبر أجهزة تُعاد صياغتها تحت يافطة «التوهم الصياني» لمشروع الدولة، وصولا إلى صناعة الرمزيات الأيقونية والصنمية للزعيم والبطل والفقيه والمخلص وغيرها..
ربط الحداثة بأشكال إدارية وتنظيمية عائمة، لا يعني تأطيرا قارا لفاعليتها في تمثيل مشروع الدولة، والنظام الاجتماعي، فكل الحداثات التي تخضع إلى مركزيات أيديولوجية يحكمها وعي زائف بتوصيف ماركس، وهذا الزيف يتحول إلى ممارسات قهرية تفرض نمطيتها على الآخرين/ الجمهور، ليتحولوا إلى اتباع بتوصيف غياتري سبيفاك، ونظرتها للتابع وهو يقلد المستعمر أو الحاكم، وهذا ما يجعلنا نشك بتلك الحداثة التي يمكن أن يصنعها ذلك التابع المشوه والمرتبك والعنيف، لأنها ستكون بلا تغطية ثقافية وتعليمية وتنموية وحقوقية، وأن مرجعيات الأيديولوجيا والعسكر لا يمكنها إشباع الحداثة بقيم أنطولوجية تسوغ وجودها، وتّنظّم عملها داخل مؤسسات فاعلة وحقيقية..
تتبع البروباغندا الإعلامية والسياسية وحتى الأمنية للحالة السورية، تؤشر مدى أهمية التغيير الحادث في سوريا، ومدى تأثيره الجيوسياسي في المنطقة، وفي العالم، وفي وضع الدولة الجديدة إزاء سياقات ومواجهات، تبدأ من مواجهة الجماعات الإرهابية، ومن ذاكرة العنف الأيديولوجي/ الأصولي، ولا تنتهي بتحرير سوريا من تحالفاتها القديمة، وباتجاه إعادة صياغة وجودها الجغرافي ليكون ممرا لطرق حرير جديدة وآمنة، ولعلاقات سياسية فاعلة وواقعية تحكم الشرق بالغرب، وتؤطر علاقات الدول الكبرى عبر توضيح مسار مصالحها.. هذا التوصيف لا يعني تبرئة الواقع بالكامل، وتحويل الأرض إلى أفق سحري مفتوح، بل يمكنه أن يكون مشروعا للحديث عن برايغما الدولة الجديدة، الدولة التي تتخلص من رثاثة حداثة مزيفة، ومن مشروع أصولي مرعب، وعلى نحو يعيد تغيير مسار موجهات الدولة عبر تجاوز عقدة الانقلاب العسكري العربي، وسلطة المعسكر والأيديولوجيا، والسعي إلى وضع الملف الثقافي بوصفه جوهر مشروع الإصلاح المفاهيمي والفكري، لتخليق أفق يتسع لفاعليات مراجعة الماضي ونقده، مقابل العمل في السيطرة على الفراغ والفجوات السياسية والاقتصادية التي كثيرا ما تراهن عليها الأنظمة القديمة، فضلا عن العمل في سياق «النقد الثقافي» لمراجعة علاقة السلطة بالنصوص، وبالتاريخ، وبالأنثروبولوجيا، إذ ستتيح هذه المراجعة مجالا للنظر في مفهوم السلطة، من خلال النظر في خطاب الدولة كتعويض أنطولوجي، وكممارسة تتعزز بإنتاج النصوص التي تؤسس على أساس المشروعية وجودة الحكم، ونبذ فكرة امتلاك الحقيقة الكاملة، كمنطلق لمواجهة محنة التاريخ وعنف الجماعة، وتجاوز أوهام السرديات التي يمكن للبعض من العصابيين التفكير بإعادة إنتاجها كنوع من «سلطة الأمر الواقع» وكنوع من الخطاب الجاذب والتعويضي، الذي يعمل على تكريس السلطة، بوصفها الجوهر المتعالي في الدولة، ما يعني تسويغ استعارتها لوظائف فائقة الخطورة، تؤدي إلى شرعنة العنف الفقهي والأيديولوجي، وفي التمكين من حيازة أدوات الضبط السياسي كمقدمة لضبط إيقاع الترويج لصورة المواطن الحر والدولة الحرة والمدنية…
كاتب عراقي