معاريف: من غير بن سلمان يمكنه تفكيك الخيوط المتشابكة في الشرق الأوسط؟

معاريف: من غير بن سلمان يمكنه تفكيك الخيوط المتشابكة في الشرق الأوسط؟
تصريحات ترامب الجمعة الماضي حول “سيطرة” الولايات المتحدة على قطاع غزة تثير عاصفة في أرجاء الولايات المتحدة إلى جانب غضب ودهشة من العالم العربي والإسلامي. إلى جانب وعده بأن “تصبح غزة ريفييرا الشرق الأوسط” وتلميحاته بأن على مصر والأردن – رغم معارضتهما القاطعة – الموافقة على استيعاب لاجئين فلسطينيين من غزة، بل وادعى باستفزاز أن الرياض لا تطالب بإقامة دولة فلسطينية في إطار التطبيع مع إسرائيل.
على هذه الخلفية، وبعد أن ردت وزارة الخارجية السعودية ادعاءات الرئيس الأمريكي رداً باتاً، نشرت بياناً مضاداً شدد على موقف المملكة القاطع وغير المساوم في هذه المسألة. فـ “تحقيق سلام عادل ودائم لن يكون ممكناً دون تحقيق الشعب الفلسطيني حقوقه الشرعية”، كما تقول الرياض، وها هو ولي العهد محمد بن سلمان يعيد ويعلن بأن الموضوع ليس قابلاً للمفاوضات. من ناحيته، السعودية “ستواصل جهودها” لإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، ولن توافق على إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل بدونها”. كل هذا فيما يفضل مساراً دبلوماسياً على صراع عسكري ويسعى إلى تنفيذ التطبيع مع إسرائيل إلى جانب حلف دفاع منفرد مع الولايات المتحدة، ما يساعد على رفع مكانة الرياض الإقليمية والعالمية.
وإضافة إلى موافقة الجمهور الإسرائيلي وحكومة نتنياهو على “خطة الترحيل” بتأييد نحو 72 في المئة، فإن الاقتراح الاستفزازي لرئيس الوزراء الذي نشر هذا الأسبوع في القناة 14 لنقل السكان من غزة إلى السعودية و”إقامة دولة فلسطينية على أراضيها الواسعة” – ضج قادة المملكة السعودية. وندد إلى جانبهم زعماء مصر والأردن والإمارات والعراق وقطر والكويت، بموقف إسرائيل بشكل علني. فإبعاد/اقتلاع نحو 2 مليون فلسطيني من غزة بالقوة يشكل، في نظرهم، خطوة غير أخلاقية وخرقاً فظاً للقانون الدولي. فهذه خطوة هدامة تثير الكثير من الاضطراب في ظل تقويض الوضع الراهن والاستقرار الإقليمي وتعد تهديداً أمنياً وجودياً، بل و”سبباً للحرب” في نظر القاهرة وعمان. ترى الرياض أيضاً بأن التصريحات في وسائل الإعلام “تصرف الانتباه عن الجرائم المتواصلة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد الإخوة الفلسطينيين في غزة، بما في ذلك التطهير العرقي”.
كل هذا، إضافة إلى أن السياسة الإقليمية الجديدة التي تمليها الإدارة الأمريكية وتتبناها إسرائيل، تفرض عليهم اتفاق سلام لا يتوافق ومصالحهم بالقوة وبغير حق. ليس صدفة أن أعلنت مصر على هذه الخلفية استضافتها قمة طوارئ في 27 شباط، للبحث “في التطورات الجديدة الخطيرة”. فضلاً عن التوتر الشديد الذي نشأ في المنطقة، لأول مرة منذ نشوب الحرب في 7 أكتوبر، نشأت جبهة للدول العربية بقيادة الرياض ترفض خطة ترامب وتتصدى بحكم الأمر الواقع للحاجة لعرض خطة عملية بديلة لإسكان الفلسطينيين وإعمار قطاع غزة في “اليوم التالي”. في إطار ذلك، يخيل أن تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، حالياً على الأقل، ليس في سلم أولويات الرياض.
معارضة للاعتراف بإسرائيل
يظهر تمعن عن كثب أن نحو 74 في المئة من الجمهور الإسرائيلي يعارض مسيرة التطبيع إياها التي تتضمن إقامة دولة فلسطينية، ونحو 50 في المئة يفضلون أن تحكم إسرائيل قطاع غزة، مثلما يتضح من استطلاع أجراه معهد PEW في أيار 2024.
في الرؤية السعودية، كانت العلاقات مع إسرائيل موضوعاً مشحوناً وحساساً للغاية. إن “مبادرة السلام” السعودية في 2002 تعد كفعل رمزي فقط استهدف في حينه إرضاء الولايات المتحدة، ليس هذا فحسب، بل إن المملكة السعودية – باستثناء الحساسية الكبيرة في مسألة السيطرة على الأقصى – تمتنع حتى الآن عن التدخل في صراع إسرائيل ضد حماس، وبعامة في النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. استطلاع للرأي العام أجراه معهد “WINEP” في كانون الأول 2023 يظهر أن أغلبية مطلقة من 96 في المئة من الشعب السعودي عارض العلاقات بين إسرائيل والعالم العربي. كما أن 68 في المئة عارضوا اعترافاً سعودياً بها – مستوى المعارضة الأعلى للتطبيع الذي يسجل منذ 2016 – مثلما يتضح من استطلاع لمعهد الدوحة الذي نشر في كانون الثاني 2024.
تظهر نظرة استراتيجية واسعة بأنه فضلاً عن كون السعودية منتجة النفط الثانية في العالم (المسؤولة عن 12.9 في المئة من الإنتاج العالمي) والاقتصاد الأقوى والأكبر في الشرق الأوسط (ناتج محلي خام بمقدار 1.083 تريليون دولار في 2024)، تتمتع السعودية اليوم، ضمن أمور أخرى، باستئناف علاقاتها مع إيران وقطر، وكذا من علاقاتها الدافئة مع تركيا. ففي إطار اتفاق بقيمة 6 مليار دولار، من المتوقع للرياض أن تشتري سفناً حربية ودبابات وصواريخ من أنقرة.
كما يتبين أن بن سلمان الذي يتمتع بشعبية واسعة في الداخل، يعد في السنوات الثلاث الأخيرة الزعيم الكاريزماتي والمحبوب الأكبر في العالم العربي، الذي يغازله كثيرون من زعماء العالم مثل (رؤساء الولايات المتحدة، وروسيا والصين إلى جانب رؤساء شركات تكنولوجية واتحادات تكنولوجيا عليا عالمية). ومع أنه لا يهتم شخصياً بالفلسطينيين، فإنه على وعي جيد بالتأييد الواسع الذي يحظون به من جانب الشعب السعودي والعربي والإسلامي. وإن التضحية بهم في صالح تطبيع مع إسرائيل تشكل انتحاراً سياسياً ومخاطرة كبيرة على استقرار المملكة. مع ذلك، ومع أن الوعد بعقد اتفاق سلام سعودي – إسرائيلي ينطوي على غير قليل من الفرص الاستراتيجية، ظاهراً يبدو أن الحديث الآن بالذات – بخاصة في ضوء ضعف إيران والمحور الشيعي ونفوذهما في الشرق الأوسط – يدور عن فرصة لبن سلمان لإبداء مرونة وزعامة واتخاذ موقف براغماتي وفاعل؛ أي المناورة بين عموم اللاعبين والمواقف المتضاربة، واستغلال التعاطف الفلسطيني وقيادة خطوات دولية تسهم في تثبيت مكانة الصدارة للرياض في الشرق الأوسط إلى جانب صورتها القوية.
خليط بين “مبادرة السلام العربية” ومكانتها الثابتة وبين عموم التغييرات التي تجري مؤخراً في المنطقة، بما في ذلك التردي الذي طرأ على مكانة الولايات المتحدة الجغرافية – السياسية، الذي يقوي موقف القيادة السعودية في وجه الضغط الأمريكي. كل هذا يسمح لبن سلمان بأن يتصدر حواراً بناء وجبهة جماعية، كما أسلفنا، تحمي مصالح السعودية، ومصالح الدول العربية، بما فيها مصر والأردن وكذا مصالح الفلسطينيين.
استغلال المال الجغرافي السياسي
فضلاً عن ذلك، على خلفية تعقيد وتفجر الأزمة الإقليمية الناشئة، فإن علاقاته القريبة مع ترامب وحاجة واشنطن للتعاون مع الرياض، يمكن لولي العهد أن يؤدي دوراً مهماً في تصميم الشرق الأوسط. فوعده بالاستثمار في الولايات المتحدة 600 مليار دولار في السنوات الأربع القادمة (شراء منظمات سلاح ودفاع أمريكية…)، الذي جاء عقب إعلان ترامب عن السعودية كهدف مركزي في سياسته الاقتصادية والدبلوماسية، فمن شأنه أن يوجد حلاً إبداعياً والمضي بمنحى سياسي براغماتي للمسألة الفلسطينية.
وعلى خلفية مكانة السعودية في العالم الإسلامي، وكونها الحليف الاستراتيجي الأهم للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فإنها تعد الدولة الوحيدة التي لها اليوم موقف أساسي استراتيجي سائد وقوي في السياسة العالمية، وكذا في الاقتصاد وسوق الطاقة العالمي، وهذا يمكّنها من إجراء مفاوضات “بمستوى العيون” مع ترامب، تؤدي إلى صد خطة الترحيل.
هذه العلاقات والمواقف والخطوات، ربما تساعد الاثنين على المضي بتفاهمات مشتركة واتفاقات أمنية واقتصادية وتكنولوجية مختلفة (مثلاً في مجال حماية السايبر أو الحداثة أو الطاقة الخضراء)، حتى بدون مسيرة تطبيع رسمية مع إسرائيل.
إن تحقق رؤيا بن سلمان العالمية (Vision 2030) وإقامة مشاريع اقتصادية عظمى (مثل مدينة نيوم) ليس متعلقاً بذلك. فتقليص تعلق السعودية بمداخيلها من النفط (تحوز احتياطات النفط الأكبر في العالم وتنتج نحو 3 ملايين برميل يومياً وجذب استثمارات اجنبية وكذا عشرات ملايين السياح كل سنة بمناسبات ثقافية ورياضية دولية (مثل اكسبو 2030 ومونديال 2034) – متعلقة بقدر كبير بالاستقرار الإقليمي، وكذا بعلاقاتها مع الولايات المتحدة. لا شك إذن أن استغلال المال الجغرافي – السياسي، الاقتصادي والطاقي السعودي سيسهم كثيراً في خلق واقع شرق أوسطي جديد إلى جانب شروط وملابسات جغرافية – سياسية لم نشهدها من قبل. شروط وملابسات تؤدي في المستقبل إلى إنضاج مسيرة التطبيع بين السعودية وإسرائيل.
د. عنات هوخبرغ – مروم
معاريف 14/2/2025