ثقافة وفنون

بيضة الديناصور

بيضة الديناصور

حيدر المحسن

شاهدتُ فيلم «الرسالة» أول مرّة في سينما بابل في شارع السعدون في مركز العاصمة بغداد، وهي الدار الوحيدة المملوكة للحكومة العراقية آنذاك، وكانت تبدأ حفلها بتقرير سينمائيّ عن جولات صدام حسين في المصانع والقرى، وغير ذلك، مع نشاطاته في عالم السياسة لمّا كان نائبا للرئيس أحمد حسن البكر. هل كان يصفّق بعض جمهور العَرض في الأثناء؟ لا أستطيع الجزم بنفي أو تأكيد الأمر، لكنه غير مستبعد لأن الرجل كان يجاهد في أن يحيط نفسه بهالة إعلامية، يقف وراءها جمهور من أهل الأدب والإعلام والشرطة السرّيّة، والتابعين لأجهزة الأمن والمخابرات… بالإضافة إلى فئة من عامة الناس يتوزعّون في محافظات البلاد، لم تكن تعمل أكثر من رفع الشعارات في أوقات المظاهرات والاحتفالات، وإطلاق الأشعار و»الهوسات»، وتتقاضى رواتب عن ذلك.
الأمر المؤكد أن تصفيق جمهور السينما ظلّ يعلو في أغلب أنحاء الصالة في أربعة أو خمسة مشاهد من الفيلم الذي يحكي قصّة البعثة النبوية، عندما كانت تلوح ظلال علي بن أبي طالب، حاملا سيفه مشطور النهاية إلى سيفين باترين.
تبدو الأشياء في السّينما أكبر حجما وأكثر سطوعا، وتذهب الأفكار التي تبثّها إلى أماكن أبعدَ مما هي في الواقع. ومن أجل أن تصل «الرسالة» إلى العراقيين كاملة، اختاروا أن يكون عرض الفيلم في سينما بابل، أي أن المسألة تمّت بإشراف حكوميّ تامّ. والديناصور الذي سوف تفقِسُه بيضة الفيلم في النهاية، عليه أن يكون قادرا على عبور الحدود بين الدول، لهذا السبب جاءت النسخة الثانية من «الرسالة» باللغة الإنكليزية، ومن تمثيل أشهر النجوم في ذلك الزمان. ما من قدرة في العالم، علميّة أو سحريّة، غير السينما بإمكانها إعادة الحياة إلى ديناصور يكون من النوع السائر على قدميه، ويطير كذلك بجناحين واسعين يبلغان به البلدان التي تدين بالإسلام، وتقع بيننا وبينهم خطوط تلاقٍ وتقاطع عديدة، مثل إيران وباكستان وأفغانستان، حتى نبلغ الشيشان، وغيرها من بلدان الاتحاد السوفييتي في ذلك العهد، وقد استطاع هذا الجنّيّ بلسانه العربي والآخر الإنكليزي تحقيق هذه المهمة بكفاءة.
اعترض العديد من علماء المسلمين على مشروع الفيلم منذ البداية، فقد حرّم النبيّ المصطفى التصوير وعمل الأيقونات وما شابه، وعدّ الأمر شبيها بعبادة الأصنام، وقدّم الإسلام فكرةَ المُطلق كأنما للمرّة الأولى في التاريخ، وبهذه الخطوة تخلّصت فكرة التقرّب للّه من كلّ ما كان يحيط بها من أغصان ملتوية، تؤثر بالسلب على قدسيّة الدين، وتُفقد المؤمنين بالتالي توازنهم الطبيعي، لأنهم صاروا مقطوعي الصلة عن التّوازن الطبيعي للكون، الدليل الأكيد على عظمة الخالق.
الخبزُ الطَّازَجُ يبقى في السينما طَازَجا إلى الأبد. الانفعال لدى جمهور السينما المذكور في بداية المقال، واحد من الأغراض التي كانت وراء إنجاز الفيلم، ويذكّرنا الأمر بالتوتّر العاطفي الذي يصاحب التمثيل الدرامي في العراق وإيران، عند أداء مشهد مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب، الإمام الثّالث لدى الشيعة، في معركة الطف في واقعة كربلاء، مع الترتيل الإيقاعي الباكي للقصة، بمصاحبة دقّات طبولٍ وصنوجٍ حماسية تذكّر بجوّ المعركة، وعندما يبلغ الأداء المسرحيّ الفصل الأخير من المأساة، وفي الساعة التي يمرّ فيها السيف على رقبة الإمام، يهاجم الجمهور الممثل الذي قام بدور الشمر بن ذي الجوشن، ويطلبون النيل منه وتمزيقه، لولا أن يمنعهم رجال الشرطة. لقد بلغ فنّ محاكاة الماضي مداه الأقصى، فلا أحد من الجماهير المحتشدة، مع الإيمان الشديد المُسبق بالمأساة، والاستعداد لتقبّل حالة الحزن، الذي تختلط به اللذة لأن مصدره فنّيّ بحت، لا أحد بإمكانه تخيّل أن ما يجري أمامه، عبارة عن تمثيل غرضه استحضار الطقس ودروسه من واقعة حدثت قبل أكثر من ألف وأربعمئة عام.
إن الغرض من الإيمان بالمعجزات التي يقوم عليها الدين هو، الاستجابة وليس ردّ الفعل، وهناك فرق كبير بين الاثنين. في كتابه «النجف الأشرف، عاداتها وتقاليدها»، يحدثنا طالب علي الشرقي، أن الشيعة من أتراك أذربيجان وتبريز وقفقاسية قدموا المدينة عام 1834، وفي العاشر من محرّم «اجتمعوا إلى صحن الحسين عليه السلام ومعهم القامات وهو سلاحهم التقليدي الذي يلازمهم خلال سفرهم. ثم أقاموا مجلسا للتعزية في المكان المذكور وأخذ مُقرِئُهم يشرح لهم واقعة الطف باللغة التركية، بشكل أهاج مشاعرهم، فأخرجوا قاماتهم وأخذوا يضربون رؤوسهم وبشكل عنيف، تعبيرا عن حزنهم الشديد وأسفهم البالغ لما جرى لسبط النبيّ، وتوفي اثنا عشر شخصا منهم، حيث لم تسعفهم الجهات الصحية في حينه، لأنها لم تتوقع إقدامهم على مثل هذا العمل ولم تتهيّأ له».
حتى أمر الاستجابة والتلقّي والإيمان، إن زاد عن حدّه صار ضرره أكثر من نفعه، وهذا يحدث في السرد القصصي أيضا، في ما يدعوه النقّاد «التعطيل الطّوعي لعدم التّصديق»، عندما يذوب القارئ في حبكة القصة وينسى واقعه، منتقلا بكامل وعيه إلى ما يجري في سطورها.
كان بعض رجال المذهب الحنبلي يعدّون سورة يوسف قصّة، وليست من صُلب الكتاب المنزّل. على الأغلب كانت علّتهم أن الجوّ القصصيّ الغالب يؤدي بالمسلم إلى الانفعال الذي هو عاطفة وقتية، سوف تبتعد به عن جوهر الدين، الثابت والقائم على صفاء الروح وديمومة الأثر.
يعمل التعطيل الطوعي لعدم التصديق في السينما بدرجة أعلى من فن القصّ، وكان تركيز صانعي «الرسالة» قائما على التناظر بين سيناريو الفيلم والواقع. كانت الثورة الإيرانية في أول انطلاقتها في ذلك العهد، وقادتها يعلنون عزمهم على تصدير شعاراتها ومطالبها إلى بلدان الجوار. ومثلما انقسم المتحاربون في الفيلم إلى مؤمنين بالبعثة النبوية، ومشركين وكفّار بها، انتقلت هذه القِسمة بصورة متكافئة إلى الواقع، فأصحاب النّبيّ صار يمثّلهم المعارضون السياسيّون من الأحزاب الإسلامية، والكفّار هم أعداؤهم من الحاكمين الطّغاة.
بعد عرض الفيلم في سينما «بابل» بزمن قصير، خرجت مظاهرات في بلدة الكاظمية الشيعيّة في بغداد، لشباب متديّنين يهتفون بسقوط الحكومة ورئيسها صدام حسين، وكانوا يعقدون أذرعهم بعضها ببعض، ليكوّنوا جدارا بشريا يشبه ما يظهر في المشهد الخاص بفتح مكة في الفيلم، بينما كانوا في الحقيقة يتجهون إلى فتح لا بوّابة له، أوقفت الشرطة ورجال الأمن عجلات عسكرية نقلت هؤلاء إلى زنازين ذابوا فيها، ولم يُعثر على أثر لهم.
إن أعظم وقع وأثر في أعمال الفن أنها تُعيدنا إلى ظروف الحقبة التي تصوّر الحياة فيها. ازدحم فيلم «الرسالة» بقصص البطولة والفداء، وكان حدّ السيف فيها هو الفيصل، ومن خلال اصطفاف نجوم السينما العربية والغربية، تمّ تقديم مشاهد تقوم على خيالات تَسحَر المتفرّج، وتحمله على اعتقاد أن ما يجري أمامه حقيقة تاريخية ثابتة، بينما تمّ بناء السيناريو على قصص لمؤرّخين عاشوا في زمان متقدم مئات السنين عن زمان البعثة النبوية، ولم يتفق جميع الفقهاء على قسم كبير منها، وساهمت الموسيقى التصورية التي ألّفها الموسيقار الفرنسي الشهير موريس بيجار، وقد حرص على توظيف مقام الحجاز القريب من البيئة الصحراوية، على إسباغ جوّ صوفيّ زاد من التأثير الدرامي للأحداث. بالإضافة إلى ذلك قام فريق الإخراج باستعارة رؤية هوليوود التي فرضت في سياستها، من أجل أن يبلغ الانفعال لدى المشاهدين حدّه الأقصى، السيادة الكاملة للانتصار النهائي للبطل، على أن يسبقها موت شخصية ثانوية تُزيد من زخم النهاية السعيدة للفيلم، واختيرت حادثة مقتل حمزة عمّ النبي، لأداء هذه المهمة. ثُمّ انتقل بعد ذلك عرض الفيلم إلى التلفزيون، وصار مادّة السهرة في المناسبات الدينية، وفي ظهيرة الجمعة أيضا عقب صلاة الجماعة، يُشاهده الملايين مرارا، رغم أنهم يعرفون ما الذي سيحدث، فيهيّئون أنفسهم في كلّ مرّة لاستقبال اللقطات التي تُظهر تقاطعات يلتقي فيها الواقع والفيلم.
وعلى النقيض من الالتزامات السلوكيّة القوية التي تستند إليها العقيدة الرئيسية للإسلام، ما يُدعى لدى الفقهاء «بيضة الإسلام» أي أصله ومجتمعه، من عفّة النفس والمحافظة على العهد والإحسان إلى الآخرين، وكانت هذه العواطف المقدّسة تنتقل بين المسلمين من قلب إلى قلب، ومن جيل إلى جيل، لو استثنينا ما كان يقوم به الساسة والحكام والملوك في بعض حقب الزمان، منذ أيام البعثة النبوية، إلى ما قبل تاريخ «الرسالة»، أدت تعاليم الدين الجهادي المتشدد الذي تمّ صنعه بواسطة الفيلم، والذي يقوم على روح الثأر والقتال، إلى نقل حمّى الكراهية والنزوع إلى سفك الدماء من الأعلى (الحاكم في الزمان الغابر) إلى الأدنى (عامة الناس في الزمن الحاضر)، ولم تكن حصيلة الفيلم نهضة إسلاميّة، بل موجة من الاعتقاد الفظّ المتعطّش إلى الدماء أعادت الأجواء في البلدان الإسلامية إلى العصور الوسطى، عندما كان التزمّت والتعصّب البدائيان، شعارين لا يمكن التفريط في أحدهما، من أجل استغلال ورقة الدين في تغذية النزاعات بين الأمم المتحاربة.
شجّع الغرب هذا الإسلام المتعصب والمنغلق ودعّمه في العالمين العربي والإسلامي، لأنه وجد فيه سلاحاً قويّا لمواجهة الخطر الشيوعي الملحد في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى زرع عملاء في كلّ مكان يتمّون الفصل الثاني من مهام الدين الجديد، وهو إشعال الحروب الطائفية في البلدان التي تضمّ نسيجا طائفيا متباينا. إن الغرض من المشاريع السياسية المُجهَضَة هو إبقاء الشعوب في حالة من عدم النّضج الأبدي لا تفيد شيئا، طبيعة المقال حقيقة يعرفها الجميع، وهي أن مخرج الفيلم مصطفى العقّاد كان شيوعيّا ملحدا، قضى في تفجير نفّذه انتحاريّ إسلاميّ ينتمي إلى (داعش) في فندق في العاصمة عمّان، عشيّة حفل زواج ابنته، كأنّ الديناصور الطائر الماشي الزاحف والسابح لم يكن يُرضيه غير أن يقتصّ ممن تسبّب له بهذه الطريقة اللعينة من العيش.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب