
بين التواضعية والنقد الثقافي

حسين القاصد
يعد إمبرتو أيكو السنن في مستوى أولي نسقا للعلامات ويدعم فرضية أن (ما يميز نسقا سيميائيا هو خاصية قابليته للتأويل، وليس خاصيته كأحادي المستوى)، وإن إمكانية التأويل لنسق العلامات يدفع باستثمارها في النقد الثقافي، حين يكتمل العقد الثقافي بين المتواصلين، بالتواضع على مضمر معين يشير إلى النسق المضمر، وهو ما وصل إلى سنن تواصلي يسمح بنقل المعلومة وتمثيلها.
إن إمبرتو أيكو ليس بصدد الدلالة الثقافية التي نسعى إلى الاستعانة بالسيمياء لجعلها جسرا للنسق المضمر؛ لكنه لا يفصل التواضعية عن السنن، وهذا مبتغانا (إن مفهوم السنن يستلزم في جميع الحالات مفهوم التواضع أي الاتفاق الاجتماعي – من ناحية – ومن ناحية أخرى مفهوم الآلية التي تتحكم فيها قواعد)، ومن التواضعية والسنن والاتفاق الاجتماعي، هو إن نوعاً من الحلوى الخاصة بالأطفال، وأعني ( شعر البنات) شاعت واشتهرت بهذا الاسم، ولا يربطها بشعر النساء لا اللون ولا العطر، ليس سوى نسق الترغيب المعزز بنسق التعويض، فالترغيب يقوم به بائع الحلوى، أما التعويض فهو ما يسعى إليه من يشتري الحلوى؛ وللشاعر العراقي عارف الساعدي قصيدة بهذا الاسم:
شعر البنات
لأنك لم تعشق امرأةً
أو تداعب ظفيرتها ذات ليل
لذلك تكره شعر البنات
وأذكر أنك تضرب
كل الصغار الذين اشتروا بدراهمهم
شعر كل البنات
وتطرد بائعه من محلتنا
وتقول
إن شعر البنات
قد يذكركم بالحياة
…….
لأنك لم تبصر الصبح
حين يسيل على صوت فيروز
ولم تره وهو يفرك عينيه في لذة
هكذا أنت
صباحك حافٍ من الأغنيات
صباحك تسحله الشمس متعبة
صباحك يبدأ خطواته كالعجوز
لذلك تنسى جميع الأغاني
وتبقى تردد في عطش
لا يجوز
لا يجوز
لا يجوز
إذا انحسر الأمر بالدلالة اللغوية فهذا «الشَعر» لا يؤكل ولا طعم له، وإذا انحسر بالتوافق الشعبي، دون إشارة سيميائية، فهو لا نفع فيه أيضا، وإذا كان هو نوعا من الحلوى تنتفي الحاجة للقصيدة أصلاً؛ لكن السنن والدلالة الثقافية تدلنا على جسر النسق المضمر، وهو إن الشاعر لم يعشق امرأة لذلك يكره ما يدل عليها وعلى شعرها في أرشيف طفولته.
لكن الشاعر بالتفاتة شعرية ذكية وليس بعين سيميائية نقدية، ذلك لأن الشاعر في لحظة البوح ليس له أن ينشغل بالحقائق العلمية والمفاهيم النظرية؛ نراه استعاد طفولته وحمل منها شعر البنات ليجلده مرة ثانية، لكن كان السوط هنا هو القصيدة. ومما لا شك فيه هو أن «شعر البنات» كان وسيلة الصيد التي اصطاد بها الشاعر المتلقي، لينقله إلى عالمه الذي يريد؛ فالتواضع سيد الموقف، والعقد الثقافي متوافر، لذلك قام الشاعر بإغراء المتلقي بشعر البنات ليصطحبه إلى منطقةٍ لا شعر بنات فيها، بل ليس فيها غير شاعر لوّن خيبته بألوان شعر البنات كي يستقطب القراء. وهو نسق اتكاء واضح، فكل شيء قابل للشك، ما لم يستند إلى حقيقة راسخة أو حكمة رصينة أو مقولة شائعة تم التواضع عليها سيميائيا والاتفاق على أنه تشبه القانون الشفاهي المتفق على صحته وصوابه؛ وكي ينجلي قلق البوح لا بد من الاتكاء على سند رصين كأن تقول لأحدهم ( 1+1=2) كي تحسم الأمر لصالحك وفق الحقيقة الرياضية.
يتكئ المرء حين يشعر بأنه بحاجة إلى سند، ومثله يتكئ بوحه إلى سند؛ وحين يشكك أحدهم بكلام مروي، أو حديث نبوي شريف، يطلب السند لكي يطمئن؛ ومن هذا نفهم أن الكلام غير المطمئن، لا بد من سند له، ولعل في مفارقة الشاعر السعودي جاسم الصحيح بقوله:
كل النساء أحاديث بلا سند
وأنتِ.. أنتِ.. حديث لابن عباسِ
لعله قطع الشك تماما وجعل لحبيبته سنداً موثوقا به. وعلى الرغم من أن الشاعر مارس نسق الاتكاء على صحة الحديث النبوي وشهرة مصداقية عبد الله بن عباس، فإننا نجد (عبد الله بن عباس) جسرا ثقافيا لإقناع المتلقي.
ونسق الاتكاء نسق ثقافي من اجتراح كاتب هذه السطور، يكشف لنا حاجة العقد الثقافي إلى سند معزز، ولعلنا نجد في التشبيه الثقافي، وهو التشبيه الضمني في النقد الأدبي، لكنه ثقافي نابع من سعة أفق وثقافة الشاعر، كما في قول أبي الطيب:
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
إن عجز البيت جاء على سبيل الحكمة، والحكمة سند يقي المتكئ من الزلل أو السقوط. ولنا في اتكاء عارف الساعدي خير دليل وخير سند لإقناع المتلقي ثم فاجأه الساعدي، بأنه بصدد البنات لا بشعورهن عائداً إلى حلم الطفولة حيث الإغراء بهذه التسمية يحببها للأطفال.
وهو نسق استدعاء في الوقت نفسه، فلو دار عارف الساعدي في الأزقة لما اقترب أحد منه، لكنه بهذا الاستدعاء تمكن من إغراء حتى الأطفال ليبحثوا عن حلوى شعر البنات. والاستدعاء نسق يلجأ له المؤلف طلباً للشهرة، وهنا يكون مصحوبا بنسق الاتكاء، فكلاهما يتكفلان بالأمر، وقد يكون طلبا للتعويض، فيقوم المؤلف باستدعاء شاهدٍ يعوضه عما فاته، ونسق التعويض نسق وجداني يلعب دورا كبيراً في عزاء النفس وتعويضها عما فاتها، وقد يكون طلباً للثورة ضد واقع ما، وهو ما يشبه القناع في النقد الأدبي.
كاتب عراقي