«القاصّ المصري أمل سالم في الملهمات التسع»: مجموعة ققص حاور الزمن وتنبش في وقائع الماضي

«القاصّ المصري أمل سالم في الملهمات التسع»: مجموعة ققص حاور الزمن وتنبش في وقائع الماضي
صابر رشدي
في مجموعة «الملهمات التسع.. ميوزيس» للقاص المصري أمل سالم، ثمة تكنيكات فنية، ونوع من اللعب والتجريب، يذكرك، إلى حد ما، بالقاص السكندري الراحل محمد حافظ رجب، ذلك الكاتب الستيني الموهوب، صاحب السيرة التراجيدية، والحياة الحزينة.
يستخدم أمل سالم، أحياناً، الضمائر الثلاثة في القصة الواحدة، ويفسح للقارئ مكاناً في النص، ليشركه معه فيما يدور، يجعله يقظاً، متحفزاً، وهو يتابع الأحداث التي تتخذ مسارات دائرية، تبدأ من عند الراوي بضمير الغائب، ثم تعود إليه، لينتقل بالحكاية إلى ما هو ذاتي، مستخدماً ضمير المتكلم، بما يقتضي الإمساك بناصية النص عن طريق هذا الضمير. بينما المخاطَب هنا هو القارئ، الذي يقص عليه الحكاية، فارضاً عليه وجهة نظره في الشخصيات، ربما تقاسما تلك القناعات. وتعاطف معه، لا مع أبطاله.
يبدو ذلك واضحاً في قصة «Overdose» الطويلة نسبياً، التي تتحدث عن العلاقات بين بعض الشخصيات بمقاهي وسط البلد. شخصيات غريبة ومعقدة، تفرض نفسها على القارئ في النص، كما تفرض نفسها على الآخرين في الحياة. يتناول هذا العالم الذي يدور أمام أعيننا، يتابع هذه العلاقات، لا يكتفي بمرورها السريع، متتبعاً الخطوط المتعددة لحياة إحداهن، تلك التي تصطاد من هو جاهز ومستسلم، بعفوية زائفة، للاصطياد، مثل بطل هذه القصة الذي يبدو أنه سعيد بهذه التجربة. فهو يدرك جيداً وسائل الاحتيال، وخطواتها التقليدية، ويتماشى معها عن طريق التنبؤات، فكل الخطوات متوقعة، لا شيء بعيد عن الاحتمال، فنحن حيال امرأة تمثل نموذج لأخريات، لا تخرج حيلهن عن هذه الطريقة، ولكن التكنيك الذي لجأ إليه الكاتب، هو ما جعل الأمر مثيراً، ويستدعي المتابعة حتى السطور الأخيرة.
حكاية شعبية
في قصة «قط أبيض»، ثمة حكاية شعبية، خالصة، تحدث وقائعها كثيراً بالارتباط الخفي بين البشر وهذا الحيوان شديد الذكاء، شديد المكر، شديد الألفة عندما يجد المحبة. الحكايات المخيفة، الحكايات الكوميدية، التراث الذي يفيض بقصص شبيهة، رغم انخراط العالم في أشياء لا تنتمي إلى هذه الخرافات، والانشغال بأشياء أخرى. يستمد الكاتب قصته المبنية على وقائع حقيقية، بالنسبة إلى المتلقي المصري، ربما هي وقائع خيالية، تمتح من الفانتازيا، والخيال الجامح، عند القراء الآخرين. هذا القط الذي أحضره شقيق الراوي، وسلمه له، فهو قد تلقاه هدية من أحد أصدقائه، لكن لا أحد يريده في البيت. خاصة وأن طفله لديه حساسية من شعر القطط. لا مناص إذاً من قبوله، إنه قط شيرازي، مظهره غريب. يتحول من النفور التام من بطل القصة، إلى صديقه، وأنيس وحدته، ثم يتطور الأمر إلى ما هو أكثر، تتماهى تصرفاته مع تصرفات والد هذه الشخصية، الأب الذي رحل عن العالم منذ سنوات بعيدة. في طريقة نومه على الكنبة الموجودة بصالة المسكن، في طعامه، في حزنه، في فرحه. تحركات القط في الشقة، شبيهة تماماً بتحركاته: «رأيت القط نائماً على جانبه الأيمن، مسنداً رأسه إلى المخدة. الأغرب أن يده اليمنى أسفل المخدة، مررت بجانبه ففتح عينيه وتتبعني بهما».
يذكره بردود أفعاله، كان يتابعه بعينيه وهو نائم على هذا النحو، عندما يذهب إلى المطبخ، أو إلى الحمام. وعند عودته لم يكن ليفتح عينيه. أيضاً، يربت على كتفه، يوقظه برفق، إذا شعر بأنه تأخر عن عمله. يجلس على الكرسي نفسه، الذي كان يجلس الوالد عليه بالشرفة، متخذاً الإطلالة عينها على الشارع. لم يكن غريباً أن يطلق عليه الكاتب اسماً رمزياً له دلالته: «كوبي». ترجمه عزيزي القارئ، لتعرف إلى أين سيقودنا هذا النص، الذي يدور في عالمين، يربط بينهما مفهوم التقليد، والنسخ، والاستنساخ. حتى وفاة القط، هي إعادة لمشهد موت الأب، التفاصيل ذاتها، بلا تغيير. حتى بدا الأمر وكأن الزمن يعيد نفسه، ولكن عبر كائن آخر.
تتعدد النصوص، في هذه المجموعة التي تضم 13 قصة قصيرة، تستمد معظم عناصرها من الواقع، لكنها تعيد تشكيله، ربما تخريبه، وتشويهه أحياناً، لصالح دمجه في عالم الأدب، إخضاعه «للنصية»، حتى يتخلص من المباشرة والتقريرية. يفتح الكاتب الطريق أمام شخصيات مثيرة للاهتمام، نابضة بالحركة، مستعدة دائماً للانغمار في التجارب. أبطال مقبلون على الحياة، ليسوا من هؤلاء الذين يصارعون القدر، ويجابهون الموت في صراع ضارٍ. واقعيون تماماً، أبناء لعصرهم، تضاءل لديهم النزوع الفلسفي، والسعي وراء الأفكار الكبرى.
يمضي أمل سالم عكس الاتجاه السائد في كتابة القصة، ساعياً وراء العالم الخارجي للشخصيات، تاركاً العالم الباطني للآخرين. يبحث ظاهر العلاقات الاجتماعية بين البشر، ليقدم إلينا ما يراه، محمَّلاً بوجهة نظر تخصه، من دون مزيد من التثاقف، أو تدشين النص بحمولات معرفية تعوق تقدمه. فالسرد ابن القدرة الإبداعية للكاتب، هناك من يفضل الإبحار في المناطق الآمنة، التي يستطيع السباحة فيها وفقاً لقدراته، حتى يضمن النجاة، وهناك من يذهب إلى المياه العميقة، من دون استعداد، من دون كفاءة، أو قدرة على تخطي العقبات، مثل هؤلاء، غالباً، مصيرهم الغرق، هم ونصوصهم. إذا أراد المرء انتشال أعمالهم، فسيجدها مثيرة للشفقة، لم تستطع الطفو على سطح الزمن.
تفاصيل الولادة
في قصة «السرير»، التي تعتمد على الذكريات القديمة، ثمة استدعاء للحظات مفصلية في تاريخ هذا السرير، أو تاريخ الراوي معه، الذي يعود إلى طفولته، يتراءى له هذا الماضي، أثناء قيامه بتفكيك السرير، قطعة وراء الأخرى، بعد مرور نصف قرن من وجوده داخل البيت. يتذكر بقعة الدم الحمراء القانية التي لمحها ذات ليلة على الفراش، وظنها نتيجة جرح أصاب أمه. لم يعلم أنها حائض إلا في الكبر. أيضاً، مشهد انتفاخ بطنها، وهي تستند إلى ظهر السرير، محاطة بعدد من الوسائد، واعتقاده بأن هذا الانتفاخ نتيجة التهامها كميات كبيرة من الطعام.
تفاصيل الولادة. تفاصيل مرضها الأخير. بقعة الدم الكبيرة، نتيجة انفجار الكبد. باختصار، السرير، بمظهره البائس، هو أحد شواهد التاريخ العائلي. إنه كقطعة أثاث لا غنى عنها، يذكرنا بالروائي والناقد الفرنسي ميشيل بوتور، المتبحر في تيار الرواية الحديدة، تعليقه على استخدام مواطنه أونوريه دي بلزاك، روائي القرن التاسع عشر الشهير، للأثاث والأشياء في أعماله، وربطها بتاريخ الأشخاص:
«إن تاريخ الفرنسيين مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصائر ومغامرات المقاعد التي يجلسون عليها، أو الأسِرّة التي يرقدون فيها، ومن الواضح أن إحدى الفروقات المهمة بين المدنيات هي الطريقة التي يتكيف بها الجسد مع الأغراض المختلفة التي تحيط به».
وهكذا يتكئ راوي القصة إلى قطعة أثاث منزلي، ليستحضر من خلالها مشاهد صعبة الزوال من ذاكرته.
يميل أمل سالم إلى استحضار زمنين مختلفين، الماضي والحاضر، ينسج منهما حكايتين منفصلتين، ظاهرياً، في القصة الواحدة، لا صلة بينهما، كما يبدو للوهلة الأولى. تسير كل حكاية بموازاة الأخرى، بشيء من الغموض، الأولى بضمير الغائب، والثانية بضمير المتكلم. إنه يجيد هذه اللعبة، بنوع من التوازن والدقة، لا يكشف أوراقه دفعة واحدة، كما في قصة «مبدأ الريبة» التي يبدأها بمشهد وصفي لسيدة نوبية في منتصف العمر، تجلس في عربة القطار المتجه إلى الجنوب، يبدو ذلك واضحاً من نقوش الحناء التي اصطبغت بها كفاها السمراوان، إلى جوارها أجلست ابنتها، طفلة في الثالثة من عمرها، منقوش على كفيها الرسومات نفسها: «خطفت روعة الزخارف نظر الشيخ الطاعن في السن، والجالس إلى جوار الطفلة، فأخذ يحدق فيها بتفرس، ويرقبها بدقة».
النقلة الثانية
ما سبق، هو المدخل السردي للحكاية الأولى، إنها تدور في الحاضر، مسرودة من علٍ، بضمير الغائب، وبحيادية تامة. تأتي بعدها النقلة الثانية، انفصال السيدة عن المشهد، لتفتح مساراً جديداً، متحولة إلى ذات ساردة في حكاية أخرى، تتفكك من خلالها الكتلة الصلبة للنص، إنها تستحضر ماضيها بضمير المتكلم:
«كنت طفلة صغيرة أنام في الحوش السماوي في بيتنا، حيث وضع أبي لنا الأسِرَّة الجريدية المفروشة بسجاجيد منسوجة من صوف الغنم. كنا ننام وننظر للسماء فنرى القمر في أيامه المختلفة، تارة هلالاً، وتارة بدراً مكتملاً، وأخرى محاقاً على وشك أن يزول، والنجوم كلها تلمع فوق رؤوسنا، لم يكن ثمة أضواء كهربية، لذا كانت السماء واضحة وجميلة».
تتحول القصة إلى فقرات، يمسك الكاتب بدفتين، يدير من خلالهما قاطرة السرد، دمج نصين تحت عنوان واحد، عبر شخصية هذه المرأة، التي يجيء ذهابها إلى الماضي، لاستحضار أشد اللحظات سوداوية في تاريخها، مشهد اغتصابها في هذا العمر المبكر، من قبل رجل في عمر هذا الشيخ الجالس جوارهما، وينظر إلى الطفلة نظرات مريبة، ما جعلها تمسك بها وتضعها فوق حجرها، وتضمها بقوة. إن الوصول إلى هذه النهاية التي كانت بمثابة المفاصل التي تربط بين الحكايتين، هو ما أنقذ النص من التشظي المجاني، والذهاب إلى طريق مسدودة.
تستهوي حكايات القطارات أمل سالم بوصفه كاتباً جنوبياً، عاين كثيراً من هذه المشاهد في ذهابه وإيابه، من القاهرة إلى بلدته، ومن بلدته إلى القاهرة. فهناك نص آخر بعنوان «هي ورجل»، يدور داخل هذا الموقع المتحرك داخل الزمان، طاوياً بداخله ما يستحق أن تفرد له المساحات الكبيرة، في الأدب والفن. الإمساك بتشيؤ الأفعال، والسعي وراء إثبات ذاتيتها، فنحن بصدد رحلات قد تستغرق يوماً بأكمله، ونوعيات مختلفة من البشر، لكل واحد منهم حكايته، المثيرة غالباً، وثمة تباين طبقي ما بين المسافرين، تحكمه درجات بطاقة السفر: أولى، ثانية. ثالثة. عربات مكيفة. عربات نوم.. إلخ. إنه انعكاس واقعي لصورة العالم خارجه.
في قصة «سيرة غير مبررة» يتمثل الكاتب بشكل رائع روح الطفولة، وهو يصف مشاعر بطله الصغير، عندما يمر هو وجدته أمام المستشفى التي ولد فيها، هذا المبنى الذي مثَّل للعجوز هاجساً مخيفاً، معذباً: «كلما مر في يد جدته لأمه أمام تلك المستشفى نظرت إليها بتأمل، ثم اغرورقت عيناها بالدموع، ثم احمرت، وتبعتها وجنتاها، ثم أمسكت يمين الصبي جيداً بيسراها».
لقد وضع بذور النص في هذا المدخل الافتتاحي. اليتم. الفقد. الوفاة المأساوية للأم، والذي لم يصرح به علانية على مدار القصة، لكنه ترك لنا طفلاً، ربيباً لجدته، ربيباً لخالته. لا أم، لا أب، لا أشقاء. الأحداث كلها تدور حول عائلة الأم. حول الرعاية المثالية. والعقدة المزمنة من المستشفى التي ولد فيها. ما يجعلنا نجازف ونقول إن أمه ماتت فيها فور ولادته، فقد نجح الكاتب في جرنا إلى هذا التخمين، عبر لجوئه إلى التلميح الخفي. لا التصريح المباشر الذي يصعب على طفل صغير رصده بدون معاناة لفظية.
أمل سالم: «الملهمات التسع»
الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2022
137 صفحة.