ثقافة وفنون

دوستويفسكي: التاريخ لا يحتفي إلا بالخاسرين

دوستويفسكي: التاريخ لا يحتفي إلا بالخاسرين

نعيمة عبد الجواد

فيما يبدو أن الوحدة والفقر لعنة أصابت البشرية منذ قديم الأزل، وآثارها تمتد حتى الوقت الحاضر. وعلى الرغم من أن صدى تلك اللعنة هو تقريبا أصل كل الشرور التي ابتليت بها البشرية، لكنها على نقيض ذلك، هي أيضا سبب مباشر لتفجير العديد من المواهب، وكذلك الدافع الحيوي لبلوغ أقصى درجات التقدُّم والإبداع الفني والأدبي. وعلى الرغم من توق أي فرد لتحقيق السعادة والهناء، وبلوغ أقصى مراحل النجاح والشجاعة، لكن يفضل البشر سماع وقراءة قصص التعساء، ولا يتناول الأدباء إلَّا تاريخ هؤلاء؛ فكما يقول الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو Umberto Eco (1932-2016) «الخاسرون كمن يتعلَّم ذاتيا، ولذلك فهم دائما يعرفون أكثر بكثير ممن أصبح النجاح حليفا لهم. ومن ثمَّ، إذا رغبت في الانضمام لفريق الفائزين، فكل ما عليك هو أن تعلم شيئا واحدا فقط دون سواه، حتى لا تضيع وقتك، ألا وهو: «مباهج المعرفة خصصت للخاسرين».
وعلى هذا، فإن كتب الأدب الخالدة لا تحكي إلَّا عن الخاسرين، وإن حالفهم النجاح يوما، لا يكون ذلك إلَّا في النهاية لعلها تكون إشراقة أمل لقلوب حزينة، لكن لو استكملت الرواية نفسها في جزء تالٍ لها، يتبدل النجاح إلى فشل آخر حتى تتوالى الأحداث، والسبب أنه لا يوجد ما هو ممتع في حياة ثابتة مستقرة لا يشغل صاحبها سوى الانتقال من نجاح لآخر. أو كما يؤكد أمبرتو إيكو: «كان ديستويفسكي يكتب عن الخاسرين. وكذلك كان بطل الإلياذة «هيكتور» خاسرا، فالحديث عن الفائزين أمر شديد الملل، لكن الأدب الحقيقي يتحدث عن الخاسرين. وكذلك هو الحال بالنسبة لمدام بوفاري وجوليان سوريل. وبالنسبة لي، فأنا أسير على دربهم. فالخاسرون أكثر روعة، في حين أن الفائزين أغبياء؛ والسبب أنهم عادة ينتقلون إلى زمرة الفائزين بمحض الصدفة». ولطالما أكَّد أمبرتو إيكو، أنه أحد هؤلاء الخاسرين الذين يشعرون بالوحدة، وكأن ذلك مدعاة للشعور بالفخر، فيقول: «أنا أنتمي لجيل ضائع، ولا أشعر بالراحة إلَّا بصحبة الضائعين الذين يشعرون بالوحدة».
وفي حين يتفاخر أمبرتو إيكو بالهزائم التي جابهته وصنعت منه فيلسوفا وكاتبا وروائيا وناقدا مرموقا ملء السمع والبصر، بالإضافة إلى وظيفته الأساسية كبروفيسور في جامعة إيطالية ذائعة الصيت، كان الكاتب الراقي والفيلسوف الشعبي دوستويفسكي على النقيض؛ فكانت حياته الصعبة المملوءة بالفشل والصعاب هي من صنعت منه واحدا من أعظم محللي النفس البشرية، وفي الوقت نفسه لم يكن يتباهى أبدا بمدى عمق معرفته أو سعة اطلاعه، فكان يصمت ويكتب، ولهذا ترك للبشرية ميراثا من روايات وشخصيات حقيقية تنبض بالواقعية الصادمة المجحفة. كان دوستويفسكي تجسيدا لمقولة أمبرتو إيكو، أن «مباهج المعرفة مخصصة فقط للخاسرين» لكن إيكو لم يذكر أيضا أنه يصاحب تلك المعرفة شعور عميق بالحزن القاتل الذي يكبت أي نوع من الفخر بأي إنجاز، مهما كان ضئيلا أو حتى عظيما؛ فكلاهما سواء، لعدم وجود ما يمكن أن يغيّر ذاك الواقع المقيت الذي يقتل الخاسر في كل لحظة.
وقد كبَّلت الحياة دوستويفسكي (1821-1881) بسلاسل متينة من الفشل بدأت من بنيته الشخصية الهزيلة التي تعد مدعاة للاحتقار بالنسبة للرجال في روسيا؛ فالرجل الروسي تكتمل رجولته من الناحية الاجتماعية ببنية جسده القوية التي تؤهله لأن يكون شخصا رياضيا بسهولة. وتلك الصورة للرجل المكتمل الرجولة لا تزال سائدة في روسيا، والدليل على هذا أن رئيس روسيا فلاديمير بوتين يحيط نفسه بتلك الصورة؛ ليظل نموذجا للقوَّة في عيون أبناء شعبه ومن يعتبرهم أعداء له.
وعلى الرغم من هذا، تغلَّب شخص دوستويفسكي على تلك الصورة بذكائه المتَّقِد، الذي بزغت بشائره منذ سنوات عمره الأولى، والذي أهَّله أيضا لأن يدخل دائرة الأدباء في مقتبل عمره، بالإضافة إلى نجاحه في أن يصبح مهندسا، وفي الوقت نفسه، حرص دوستويفسكي على ترجمة الكتب ليزيد من دخله. لكن فترة الازدهار تلك هي النقطة المضيئة الوحيدة في حياته؛ فلم يمهله القدر أن يحظى بها كثيرا. فقد تم القبض عليه والحكم عليه بالإعدام بعد اتهامه بأنه ينتمي لجماعة من الأدباء تناقش كتبا عن حكم قياصرة روسيا. وحالفه الحظ أنه قبيل اللحظة الأخيرة لتنفيذ الحكم، تم استبدال العقوبة بالسجن في سيبيريا لمدة أربع سنوات. في ذاك الوقت، فاق شعوره بالمذلَّة وضراوة الأحوال في سجن سيبيريا، وجوب التعايش يوميا مع أعتى ألوان المجرمين المحترفين الذي كان يخشى سماع أخبارهم وهو خارج السجن. لكنه داخل السجن، لم ينفك عن الاستماع لقصصهم وتحليل شعورهم والتخزين في ذاكرته لكمٍّ هائل من المعلومات عن خبايا النفس البشرية، وعن السجن الذي يضم في كنفه أشخاصا راقين شديدي الثقافة جنبا إلى جنب مع عتاة المجرمين، وأصبح هؤلاء هم المادة الخام لموضوعاته والنموذج الواقعي الذي يبني عليه شخصيات رواياته.
وبعد السجن، تم تجنيده لفترة ست سنوات في المنفى، أي عشر سنوات ضاعت من عمره بسبب «اتِّهام». لكنه حاول في تلك الفترة أن يستفيد من مواهبه وعمل في الصحافة إلى جانب كتابته للروايات؛ فحكى للناس عن الوحدة، وما يمكن أن تفعله بالبشر، وأكَّد خيبات الأمل التي تقتل الإنسان في كل لحظة. وكان القدر شريكا له في كل شعور بالمرارة نقله لقرَّائه، فقد أصبح الفقر والديون حبلا خانقا، يكبِّل حتى الهواء داخل رئتيه، وعبَّر عن ذلك في رواية «الفقراء» حينما قال: «الفقر يجعل الأحداث البسيطة معقَّدة ومؤلمة.. الفقر يفقد الإنسان هيبته واحترامه.. الفقر يجعل الحياة لا تطاق».
ولم يكتف القدر بذلك، فقد أصابه بمرض الصرع الذي عبَّر عنه بواقعية في رواية «الأخوة كارامازوف» وكذلك توفَّيت ابنته الكبرى في مهد الطفولة. وحرمه أيضا الموت من ابنه «أليوشا» وهو لا يزال أيضا صغيرا، ناهيك عن حقارة أقربائه معه، وبذاءة أخلاق زملائه الأدباء، وازدراء الدولة به. فقد تكالبت عليه أسوأ ظروف وكوابيس الحياة، وكان يتوجَّب عليه أن يجابه كل هذا بصمود وصمت. وأقسى جملة مقتضبة عبَّرت عن شعوره بالموت الداخلي في لحظة، قوله: «لم أطلب يدا تمسح دموع الفزع، ولم أوقظ أحدا ليعانقني كي أهدأ، علام يجب أن أكون ممتنا لأحد؟ لقد عشت أسوأ اللحظات بمفردي». وعلى الرغم من شعوره الداخلي بالخيبة والحسرة، كان يرسم على وجهه ابتسامة صادقة صافية، يقابل بها الآخرين ويجعل منها قناعا يخفي به الشعور بالحسرة والألم، الذي داهمه حتى عند موته؛ فقد قتله نزيف الرئة الذي جعله يودِّع الدنيا بألم يضاهي حياته البائسة التي جاهد فيها أن يتمسَّك بأي بارقة أمل. رحل «دوستويفسكي» وترك ثلاث عشرة رواية خالدة جعلت منه عملاق الأدب الروسي وخبيرا بالواقعية المجحفة، ومحللا عبقريا لخبايا النفس البشرية. وفي كل حرف من رواياته كان يروي لمحة من حياته البائسة، التي كانت منجما لصدقه وحياته الخالدة.
وحدته القاتلة وحسرته وخيباته التي عانى منها طوال حياته جذبت جمهورا واسعا اعترف بعظمته منذ اللحظة الأولى لموته، فقد حضر جنازته نحو مئة ألف شخص، وحاول بعضهم تقليص هذا العدد للنصف، لكن ما يهم أن عشرات الآلاف تزاحموا لحضور جنازته، ومليارات البشر على مرّ العصور يخلَّدون اسمه وكل حرف قاله، لكنه لم يحظ بوقت ليستمتع بكل هذا، فما جاء في وقت متأخِّر أظنه سيبدل ابتسامته الصافية بامتعاض وبكاء منهمر؛ لأنه بئس الاحتفاء، فلا قيمة لكل هذا له مع جسد مكلوم صار لا وجود له على ظهر الأرض.

كاتبة مصرية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب