
الكلاب… قصة وفاء وصمود

محمد محمد الخطابي
خلال الحجر الصحي الاحترازي الذي عشناه مؤخرا، على مَضَض توجساً واتقاءً من وباء الجائحة اللعين الموسوم بـ(كورُونا) وهو نعتٌ موضوعٌ في غير محله ودون أحقية أو معنىً أو استحقاق فكورونا في اللغة الإسبانية تعني (التاج) وأين هذه الجائحة من التاج. هذا الوباء الخطير الذي ذهب بغير قليلٍ من أحبائنا وأقربائنا وخلاننا ومواطنينا، والذي أربك حياتنا، وطريقة تفكيرنا، وقض مضاجعنا. هذان المخلوقان الوسيمان اللطيفان اللذان نراهما في الصورة المرفقة مع هذا المقال، الكبير والخطير يُسمى (كيلر) (وهو من فصيلة روتوايلر) وهو من كولومبيا، والثانية الصغرى البريئة المسالمة التي تسمى (ليندا) (من فصيلة بيغل) من بريطانيا، يعيشان معنا منذ سنواتٍ بعيدة خلت والموسومان بأنبل معاني الأمانة والوفاء، لا بد أنهما كانا خلال مدة الحجر الذي كان مفروضا علينا فرضاً كسجن منزلي أُرْغِمنا عليه يتساءلان معنا حائريْن، قلقيْن، حذريْن يقظيْن متوجسيْن: ماذا جرى في علم الله؟ لماذا أصبحنا لا نبرح مقر سكنانا إلا بالكاد، وبشروط إعجازية بالحصول على شهادات تطعيمية وتراخيص طبية إلخ؟
موضوع الكلاب
بالمناسبة إليكم حكاية (الكلاب والضيوف) الواردة في أحد كتبي الصادرة مؤخراً في الأردن الذي جاء فيه، وُجهت الدعوة لعالمٍ مُحاضرٍ مغربي للمشاركة في أحد اللقاءات الثقافية في بلدٍ شقيق وصديق، وعندما وصل المحاضر إلى هذا البلد، استقبله علماؤه ببرود شديد، وبنوعٍ من الاستهزاء، والازدراء ولم يُحسنوا وفادته، ولم يُولوه أي أهميةٍ تُذكر، في حين كانت وفود البلدان الأخرى المُشاركة موضعَ عنايةٍ ورعايةٍ كبيريْن من طرف مُنظمي هذه التظاهرة الثقافية، التي كان موضوع المشاركة فيها حراً وغيرَ مُعلن ليشكل نوعاً من المفاجأة للحاضرين والمشاركين، وبعد أن تحدث العديد من المُحاضرين من المدعوين الذين قدِموا من مختلف الأقطار، والذين عوملوا بمنتهى اللطف، والتقدير، الشيء الذي لم يتم مع المحاضر المغربي، قال له الرئيس المُسير للجلسات مُستخفاً -على ما يبدو- من طريقة وضع السؤال: ماذا أعددتَ لنا للحديث في هذا المحفل يا مغربي؟ تريث المُحاضر المغربي قليلاً ثم قال له: إذا أَذِنَ لي السيد الرئيس فإنني اخترتُ أن أتحدث عن موضوع الكلاب! فصار الجميع ينظرون إلى بعضهم بعضا في تعجب وترقب.. وبما أن اختيار المواضيع كان حراً، لم يجد رئيس الجلسة أي حرجٍ إذ قال له: لا بأس تفضل.
أشعار وأمثال وأقوال
صار المحاضر يتحدث عن الكلاب، وقد أجاد، تحدث عن الكلاب منذ أقدم العُصور مُروراً بمختلف الأحقاب التاريخية السحيقة في القدم إلى اليوم، تحدث عن أشهر الكلاب: (قطمير) «كلب أهل الكهف» في القرآن الكريم، وعن لهثان الكلاب، وعن وفاء الكلاب، وعن الكلب في الأدب العربي القديم في الجاهلية، راوياً حكاية (على نفسها جنت براقش) الشهيرة! والعصر الإسلامي، والأموي، والعباسي في المشرق والأندلس وفى عصريْ الانحطاط والنهضة، وفي وقتنا الحاضر، مُستدلا بالعديد من النصوص الأدبية والأشعار التي قيلت في صديق الإنسان المخلص.. ومما سرده أبيات ابن الرومي الشهيرة التي مطلعها:
وَجْهُكَ يَا عَمْرُو فيه طولُ / وفى وجوه الكِلاَبِ طولُ.
وذكر بتراشقات وإخوانيات أمير الشعراء أحمد شوقي و(شاعر النيل) حافظ إبراهيم، حيث قال حافظ ذات صباحٍ مداعباً ليُخْرِجَ شوقي من صمته وبرودته:
يقولون إن الشوقَ نارٌ ولهفةٌ / فما بَالُ شوقي أصبحَ اليومَ بَارِدَا؟
فرد عليه شوقي مداعبا قارصا:
أودعتُ إنساناً وكلباً وديعةً / فضيعها الإنسانُ والكلبُ حافظُ
وذكر المحاضر بالأشعار الجميلة التي قيلت في الكلب الشهير في الأدب العربي الحديث وهو (هُول) وهو أول كلبٍ بوليسي من فصيلة (الراعي الألماني) استُخدِم في مصر وكان شديد الذكاء، وبالغ الفطنة حيث قال في حقه الشاعر المصري محمود غنيم قصيدة طريفة مطولة منها:
كلبٌ ينم عن الجُناة / تمشي العدالة في خطاه…
إن قال أرهفت النيا / بةُ سمعَها وصغى القُضَاة
وأورد الأبيات الشهيرة عن الفقير، والثري، والكلاب التي تُنسب تارةً للإمام الشافعي رضي الله عنه وفي أطوار أخرى تُنسب لعباس ابن الأحنف والتي تقول:
يَمشي الفقيرُ وكلُ شيءٍ ضدَهُ / والناسُ تُغلِقُ دونَهُ أبوابَها
وتراهُ مكرُوهاً وليس بمُذنِبٍ / ويَرى العداوةَ لا يَرى أسبابَها
حتى الكلابَ إذا رأتْ ذا ثروةٍ / خضعَتْ لديهِ وحركتْ أذنابَها
وإذا رأتْ يوماً فقيراً عابراً / نبحتْ عليه وكشرتْ أنيابَها.
الكلاب والأدب
وذكّر المحاضر المغربي الحاضرين في هذا الملتقى الدولي بالطرفة التي قدمتها السينما والتلفزيون المصريان في الستينيات من القرن الفارط في مسرحية «سيدتي الجميلة» مقتبسة عن مسرحية My fair Lady للكاتب الأيرلندي الساخر برنارد شو، حيث من المعروف أن «القاهريين» الأقحاح و«القاهريات» الأصيلات لا ينطقون ولا ينطقن حرف «القاف» ويستبدلونه تخفيفاً بحرف « الكاف» فهم يقولون في (القاهرة) مثلاً (الكاهرة) وعندما كتب معلم اللغة العربية (فؤاد المهندس) على السبورة العبارة التالية: ( أنتَ القلبُ الكبير .. أنت بحكمتك تختال علينا) وطلب من (شويكار) قراءة هذه العبارة قالت بصوتها الشجي بنغمةٍ لا تخلو من دلالٍ ودلع: (أنتَ الكلبُ الكبير.. أنت بحكمتك تحتال علينا!) حيث نطقت القاف كافاً، والخاء حاءً على طريقة بعض قاطني سكان القاهرة! فظل المُعلم ينظر إليها مشدوها.
كما لم ينس ان يعرج عن الكلاب والأدب المعاصر مستشهداً بروايتيْن مشهورتيْن في هذا المجال، الأولي في أدبنا العربي، والثانية في الأدب المكتوب باللغة الإسبانية، الرواية الأولى للكاتب المصري الراحل نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل في الآداب، وهي روايته « اللص والكلاب» التي تلقفتها السينما المصرية بعد صدورها وأخرجتها بنجاح باهر، والرواية الثانية هي «المدينة والكلاب» للأديب البيروفي – الإسباني ماريو برغاس يوسا الحاصل على جائزة نوبل كذلك، وكانت باكورة أعماله الروائية التي نقلته إلى الشهرة العالمية، ومن غرائب المُصادفات الغريبة أن الروايتيْن نُشرتا في التاريخ نفسه وهو عام 1962 على الرغم من بُعد المسافة بين البلدين والكاتبين فالأول من مصر والثاني من بيرو.
كلاب العصر
وتحدث المحاضر بإفاضة عن كلاب العصر وما أدركته من مكانةٍ مرموقة في العالم الذي يُوسم بالمتمدين والمتحضر، فقال: نذكر في هذا المقام أن هناك كلاباً جابت الفضاء.. ورائدتهم في هذا المجال كانت الكلبة (لايكا).
الكلب صديق الإنسان منذ القدم، فهو الحارس الوفي الأمين، ولعل معظمنا يتذكر حكاية الطفلة الصغيرة التي تركتها أمها في البيت وتركت معها كلبها يحرس الطفلة، فلما عادت وزوجها إلى المنزل لم تجدا الطفلة في مهدها، ووجدا كل شيء مبعثراً، ولاحظا أن في فم كلبيْهما كانت باقية آثار دماء فخُيل لهما أن الكلب قد أكل الطفلة فقتلاه غير أنهما سرعان ما اكتشفا الطفلة نائمةً في إحدى زوايا البيت لم يمسسها سوء، ووجدا أيضاً ذئباً صريعاً قتله الكلب على إثر معركة ضارية، وكلنا نتذكر النهاية الرائعة لهذه الحكاية الحزينة، وهي أنهم أقاموا لهذا الكلب ضريحاً كبيراً، وكتبوا على رخامة مرمرية ناصعة تعلو الضريح قصته مع العبارة التالية: هنا يرقد الكلب الوفي!
الكلب إذن حيوان أليف وهو مشهور بوفائه لصاحبه، وفيه منافع شتى لا حصر لها في الذود عن حوض المنزل، والحراسة، والصيد، والطرد، والقنص وغيرها، غير أنه يبدو أن كلاب العصر الحديث اصابتهم عدوى الحضارة المعاصرة فتطورت حياتهم بالتالي، فأصبحنا نرى سباقاً للكلاب، ومعرضاً للكلاب، بل مباريات للكرة يلعبها الكلاب، كما أن هناك مسابقات للجمال بين البَشر ذكوراً وإناثاً فقد اصبحت هناك مسابقات للجمال والأناقة بين الكلاب.
كلاب مُدللة!
هناك أيضاً كلاب مُدللة فبعضها تأكل الشوكولاته، وأخرى لا ترضى بغير أنواع وأصناف معينة من الطعام، كما أن هناك كلاباً تحب التدخين، وبعضها يتعاطى المُخدرات، وهناك كلاب أصبحت ترتدي معاطف وسترات واقية من لفحة البرد القارص في عز الشتاء، وقد أقيمت منذ سنوات في نيويورك وباريس، وروما، ولندن، وبروكسل، وأوسلو، وفي مدن أخرى مقابر خاصة للكلاب. وتساءل المحاضر: ما هو السر يا ترى حتى أصبحت الكلاب تحظى بهذه العناية وتحتل هذه المكانة من الاحترام والدلال في قلوب الكثيرين؟ حتى إنها استطاعت أن توفر لنفسها عيشة أحسن من عيشة بعض الناس في كثير من الأشياء في المأكل، والمشرب، والملبس، والمسكن، ولعلكم سمعتم عن أغنى كلب في العالم الذي ورث عن صاحبته الثرية الملايين من الدولارات فضلا عن ممتلكاتها العقارية الواسعة بناءً على وصيتها! الأسباب والدواعي متعددة، وبعضها مجهول.
وأخيراً قال ساخراً: ومن يدري قد تحمل إلينا الأخبار غداً أو بعد غدٍ، أن بعض الكلاب دخلت مجلس العموم البريطاني أو شاركت في اجتماعات البيت الأبيض.
فيها عيبٌ واحد مُستهجَن
وأفاض المُحاضرُ في سرد أطرف القصص والحكايات عن الكلاب، وعدد مزاياها، وفوائدها، كما أفاضَ في وفاء الكلاب وإخلاصها لصاحبها. وفي آخر محاضرته.. توقف المحاضر قليلاً، وصار يُحدق النظرَ في رئيس الجلسة وفي أعضائها الذين لم يُحسنوا وفادتَه، واستقباله، بل إنهم تحدثوا عنه بإجحاف حين قدُومه ووُصوله إلى هذا البلد ونزل عليهم فيها ضيفاً.. فقال في إصرار ليتم، وَيَختتم محاضرته وهو ما فتئ ينظر إليهم جميعاً بإمعان: لكن يا سيدي الرئيس على الرغم من كل ما قلته وعددته في الكلاب آنفاً من مزايا، وخصالٍ إلا أنها فيها عيبٌ واحدٌ مُسْتهْجَن.. كَونُها تنبحُ على ضيوفه .
كاتب من المغرب