ثقافة وفنون

المجموعة الشعرية «حالات شتى»: الكتابة بطعم صوفي

المجموعة الشعرية «حالات شتى»: الكتابة بطعم صوفي

رياض خليف

يقف الشاعر التونسي الهادي العبدلي في الجناح الكلاسيكي من المشهد الشعري، على مستوى الإيقاع والعبارة والمعنى. فإذا القصيدة عنده عميقة الوجدان والبنيان. منحدرة من أزمنة شعرية تتباعد الآن. تتفاعل مع الوجدان بعميق اللفظ وصادق المشاعر. فالقصيدة ليست لحظة تهويم لغوي، بل هي لحظة انفعال مع حدث يمس الوجدان. وعلى هذا النحو تأتي مسيرة الشاعر، ميالا إلى القدامة، متمسكا بوجدانية الشعر وغنائيته، كاتبا حزنه وألمه وتبرمه، مقتنصا من الذاكرة الشعرية وهجها، ناهلا من اللفظ الصوفي. هذا ما يبدو أيضا في ديوانه حالات شتى الصادر في أكثر من 140 صفحة عن دار القلم، وهو العمل الذي يأتي بعد جملة من الأعمال الشعرية التي أصدرها في السنوات الماضية بتباعد زمني ومنها «طقوس الشك» (1995) و«خفق الرؤى» (2005) و«أوتار»(2009) إضافة إلى أشعار للأطفال.

القصائد الصدى

يتضح للقارئ أن الشاعر يكتب انطلاقا من لحظته وانفعالاته ورؤاه. فالشعر في الحقيقة هو تفاعل وانفعال مع اليومي والذاتي وليس مجرد تشكيل لغوي. وهو ما نسجله في هذا العمل. فلا يخفى أن الكثير من قصائده أصداء تفاعلات مع أحداث مختلفة مثل، الرحيل أو الفراق والموت والأحداث العامة. وقد نتبين هذه الأحداث التي يمر بها الشاعر أحيانا، وقد تظل غامضة أحيانا أخرى ولا نكتشف الحدث القادح.
في هذا الإطار يكتب الشاعر تفاعلا مع أحداث ذاتية أو عامة، فنقرأ عن رحيل والدته مطولة «رسالة لا يحملها البريد» وعن رحيل الوالد في قصيدة «ذكراك جلت». وعن صديقه الناقد الراحل خليفة الخياري في قصيدة «من ترى يتطاول». وفي هذا المجال تتفاعل قصائد أخرى مع أحزان عربية على غرار «لو تحدثت». وإن كانت الفترة الزمنية غير معلنة:
« صنعاء تأتي وصوت القتل يطربنا
نراقص الموت في أحضان من ثكلوا
عصية الدمع يا بغداد شامخة
فوق الشموخ تك الهامات تكتمل…»
هذه الانفعالات تسهم في رسم مشهد الشاعر الحزين فالحزن والانكسار يلف ذاته في أغلب القصائد. هكذا تبدو أهواء الشاعر…

خطاب الألم

يستبد الألم بالشاعر فترد صوره الشعرية ومختلف كلماته راسمة لهموم الذات وأوجاعها. فهو يكتب بذات منكسرة يغلب عليها الحزن والسواد والإحباط. فتبدو لنا صورة الذات المغتربة التي تجد الخذلان من المجموعة.
أنا قدري في الناس أشقى لأجلهم
وينكر فضلي جاحد وخليل
وما زلت أشدو في بلادي وأختفي
ولي من ربيع العاشقين فصول
وتبدو ذات الشاعر متألمة تشكو الأقدار وتكابد الألم:
إني الغريق وفي الأعماق لي سكني
لا شيء يشبهني إلاي في عجل
أمشي وفي داخلي همس يؤرقني
موج الرزايا إلى الأقدار يأخذني
من تراه من الأقدار ينقذني.
هذا المناخ الحزين الذي يسيطر على صورة الذات يتراءى في أغلب القصائد، حيث الحيرة والاغتراب والتألم والمشاعر الحزينة. وقد ترافد هذا المناخ مع مناخ صوفي يبدو بعمق في هذه القصائد، فالشاعر يضفي على تجربته طعما صوفيا.

الطعم الصوفي

لعل سعي الشاعر إلى تأصيل تجربته والتزامه بمناخات الشعرية الوجدانية التي تحتفي بالمشاعر وتجودها دفعه إلى معاجم الصوفيين، لأنها ذات مشاعر أعمق. فهو يستعير الكثير من المعجم الصوفي. وهذه المقولة لا تعني ادعاء منا بتصوف الشاعر، لكنها إشارة إلى ذلك الطعم الصوفي في لغته الشعرية. فهو يغترف من اللفظ الصوفي بنزر غير قليل، موسعا أفق لغته الشعرية إلى لغة الخطاب الصوفي ذات الواقع الأقوى. فإذا نحن في قصيدة «صباح الخير» أمام مفردة الهيام والتجلي:
متى فكرت في سيري
وهام القلب في صدري
تجلى وجهك الصخري…
ومن مظاهر هذا اللفظ الصوفي أيضا الطيف والهوى وكؤوس العاشقين، وهي مفردات لها معان ودلالات خاصة في التصور الصوفي وليست متطابقة مع الفهم الدنيوي التقليدي على غرار مفردة الخمرة وما يتبعها. فها نحن في هذا المقطع مع مفردات الهوى والطيف والعشاق وسقي الكؤوس.
عيشي تفاصيل الهواء وثقي
أنّ الهوى نوع من القلق
طيف متى حامت جوانحه
ضافت على العشاق بالعبق
يسقي كؤوس المغرمين شذى
ويذيقهم طعما من الأرق
وها نحن في هذا المقطع مع مفردة خمر الروح:
أعاقر خمر الروح في ملكوتها
وأشرب طهر الماء مذ تركوني
لعل هذه الأمثلة تحيلنا طعم صوفي كامن في لغة الشاعر الهادي العبدلي وفي مجموعته هذه. وهي تحتاج إلى وقفة أطول وأعمق.

كاتب تونسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب