ثقافة وفنون

كتاب «رجال ونساء.. قصص وطرائف»: كيف للفكاهة أن تجعل الحياة مُحتملة

كتاب «رجال ونساء.. قصص وطرائف»: كيف للفكاهة أن تجعل الحياة مُحتملة

المغرب: خاص

«اليوم الذي لا نضحك فيه هو يوم لم نعشه .. يوم منقوصٌ من أعمارنا» (حكمة شعبية)
«مَنْ كانت فيه دعابة فقد برئ من الكبر» (الجاحظ)
الكتاب المَرِح يُؤنسنا، يُضحكنا وأحياناً يُبكينا، إنه ينقلنا في لمحٍ من البصَر من الحُزن إلى الفرَح، ومن الامتعاض إلى الانشراح، يطير بنا عبر الأزمنة الغابرة، ينقل إلينا أخبارَ الظرف والظرفاء، والمجُون والمتماجنين، هؤلاء الذين تُعتبر أخبارُهم وحكاياتهم وطرائفهم بمثابة عصارة فكر للإنسانية جمعاء منذ عهود غابرة. هذه الحكايات تجعلنا نحلم ونفكر، وعبرها نطل على مختلف الثقافات التي تناقلتها الأمم والأجناس قبلنا على امتداد الحِقب والأزمان.
صدر حديثاً للكاتب والباحث المغربي محمد محمد الخطابي، عن دار النشر الأردنية (الآن ناشرون وموزعون) كتاب بعنوان «رجال ونساء.. قصص وطرائف»، جمع بين دفتيْه عشرات الحكايات والقصص، والنوادر والطرائف، والمستملحات من الشرق والغرب، تعكس مدى قدرة الإنسان على إيجاد وسائل للتسلية والتسري، وخلق فرص للضحك والفكاهة، وتوفير أسباب السعادة والانشراح من كل نوع، كل هذه الحكايات التي تمتلئ بها بطون الكتب لا بد أنها تنتزع منا ضحكاتٍ، وبسمَاتٍ في أحلك الظروف وأقساها في حياتنا اليومية الحالية الحالكة التي أمسينا نعيشها على مضض. بعض هذه القصص والطرائف وصلتنا من سديم الماضي السحيق، ثم تم تدوينها في الكتب، بدءاً بالورق المهرق، ومروراً بالقراطيس والكراريس، وصولاً إلى الورق الصقيل، وأخيراً الرقميات الإلكترونية. وتعتبر هذه المرويات اليوم جزءاً ثميناً من تراث ثقافي شفوي عالمي، يندرج في علم المرويات من الأدب أو الفلكلور الشعبي الحافل بالحِكم المأثورة، والأقوال السائرة والمشهورة، التي تجري على ألسنة قادة الفكر والعقول، والكتاب، والمبدعين، والفنانين، هذا التراث الشفوي المتواتر يعكس خصوصيات الأجناس والشعوب، ويصور لنا عوالمَ المثقفين، وأسرارَ المبدعين، وخبايا الوالهين، وخفايا المتيمين، وأخبار عامة الناس على تباين شرائحهم في مختلف أرجاء المعمورة.
الطرفة وعالمها
تشكل الطرفة أو المستملحة، من دون شك موهبةً وانشراحاً ومرَحاً لدى الإنسان، إلا أن ذلك غير كافٍ لوحده لخلق الفن الجيد، بل ينبغي لهذه الطرائف والمستملحات أن تكون مليئة بالمحتوى الثري، والرموز الدالة العميقة، فالطرفة الحلوة تنير الأفكار، وتصقل العقول، وتضفي على سامعيها بريقاً مشعاً، وسحراً آسراً، وتجعل هذه الأفكار مقبولة ومحبوبة، تستكين في الذاكرة، وتقبع في الوجدان، مستساغة، طيعة مطواعة، وعليه فلا السباب ولا الإهانة لديها مثل هذه القوة، التي تتوفر عليها الفكاهة المرحة، والتسلية العميقة. في الطرفة يكمن العديد من الفروق الدقيقة، وهي تزدان بالألوان الزاهية، كما هو الحال في قوس قزح، فهناك سخرية قاسية ذات ألوان كئيبة، ضحكتها، قد تجعل الأسنانَ تصطك، وهناك سخرية تتسم أحياناً بالجدية والصرامة، وتتخللها في بعض الأحيان غمزات ولمزات، قد تجعل سربَ الدبابير يطير فزعاً، هناك روح الدعابة، وليس في إمكاننا تجاهل النكات الجميلة، والمواقف المرحة التي وصفها البعض بصورة غير عادلة، باعتبارها قريبة من الدغدغة، التي قد تبلغ مبلغ القهقهة، هناك النكتة التي تهزنا في مكاننا عند سماعها، وهناك الطرفة التي تجعل مآقينا تغرورق بالدموع، وتجعلنا نقف دون وعيٍ منا، إنها تحركنا تلقائيا لأنها تنطوي على حافزٍ قوي، إلا أن هذا الحافز إذا خبا فإن روحنا تغدو فكراً هجيناً، وعاطفة جوفاء.
النقد الذكي
يشط بنا الخيال أحياناً بعيداً حتى ليخيل إلينا أن شخصيات بعض الطرائف قد تكون غير آدمية، بل إنها شبيهة بدمى متحركة مصنوعة من فرط الفكاهة ذاتها، ومع ذلك فهي تشتمل على أكبرِ قدرٍ ممكنٍ من الإنسانية، التي يمكن بها أو بواسطتها تكثيف الإشارات إلى أفعالنا الخاطئة، والعمل على تقويمها وفضحها وتعريتها. قد تحوم الفكاهة حول الحُكام والملوك والخلفاء، والأمراء والقضاة والمحامين والمعلمين، والشعراء، والأدباء والفنانين، والناس العاديين. الفكاهة هي الشكل التعبيري الدقيق للملاحظة الذكية الحادة، والفطنة نوع من اليقظة، وسرعة البديهة وحضورها، من خلال الإصرار المبالغ فيه على بعض الخصائص المُميزة للإنسان التي تحكى عنه، أو له الطرفة أو المستملحة، فتصبح مثل عمل فنان الكاريكاتير، الذي يجسم ويضخم الملامحَ البارزة للوجوه في رسمه لصورة كاريكاتيريةٍ ما، أو تسجيله لموقفٍ ضاحكٍ ما يسترعي انتباهه أكثر من غيره.
السخرية فن قديم
يحفل الأدب القديم منذ الإغريق والرومان والفرس والهنود، والأدب العربي والعالمي قديمُه وحديثه بكتابات ضافية متنوعة، وبقصص وحكايات، وأساطير ونصوص غابرة في القدم، مُترعة بأساليب السخرية والتهكم، ومُفعمة بالطرائف والنوادر، رواها العديد من المؤلفين والكتاب في إبداعاتهم على اختلاف أشكالها، وتباين ألوانها، في قوالب قصصية وشعرية ومسرحية، وفي سواها من الأغراض الإبداعية الأخرى، والواقع أن الأدب الفكاهي لم يخلُ منه عصرٌ من العصور.
العرب
ازدهر في صدر الإسلام، وظهرت في العصر الأموي شخصيات فكاهية مثل أشعب، وأبو دلامة، وقد اشتهر في الأدب العربي كُتاب منذ العصور القديمة في هذا المجال وبشكل خاص في العصر العباسي في طليعتهم أبو عثمان ‏الجاحظ الذي اشتهر بأساليبه الفكاهية اللاذعة، وإليه يُنسب قوله: «مَنْ كانت فيه دعابة فقد برئ من الكبر»، والذي سخر سخرية مُرة من مختلف ما كان يتراءى له أو تقع عليه عيناه «الجاحظتان»، فقد استعمل لسانه الساخر ووجه سنانَ نقده اللاذع حتى إلى نفسه، مثل الحطيئة فضحك ‏من دمامته وجحوظ عينيْه. كان للجاحظ قصب السبق في هذا القبيل، وهو القائل: «ومتى سمعت حفظك الله نادرة من نوادر العوام، وملحة من ملح الحثوة والطعام فإياك أن تستعمل فيها الإعراب، أو تتخير لها لفظاً حسناً أو تجعل لها من فيك مخرجاً سرياً، فإن ذلك يُفسد الإمتاع بها ويخرجها من صورتها، ومن الذي أريدت له ويُذْهب استطابتهم إياها واستملاحهم لها». واشتهر قبله في هذا المجال ابن الرومي، والحطيئة، وبشار بن بُرد وسواهم. ومن مشاهير العرب الذين ألفوا في هذا السياق الخطيب البغدادي، والحصري القيرواني، والثعالبي، والأبشهي، وابن الجوزي، والكسائي في كتبهم الشهيرة مثل ‏‏»التطفيل»، و»جمع الجواهر في الملح والنوادر»، و»نتف الظرف»، و»المستظرف»، وكتاب «أخبار الظراف والمتماجنين، الذي جمع فيه ابن الجوزي نوعيْن من الأخبار: النوع الأول أخبار الظرف والظرفاء، والثاني أخبار المجون والمتماجنين، الذي يقول فيه: «الظرف في صاحب الوجه ورشاقة القد، ونظافة الجسم والثوب، وبلاغة ‏اللسان، وعذوبة المنطق، وفي خفة الحركة، وقوة الذهن، وملاحة الفكاهة والمزاح، وكأن الظرف مأخوذ من الظرف ‏الوعاء، فكأنه وعاء لكل لطيف».
وأخبرنا الحكواتيون والحلائقيون والرواة والحُفاظ منذ خلف الأحمر، وحماد الراوية، وصولاً إلى أبي الفرَج الأصبهاني في كتابه الشهير «الأغاني» ومَنْ جاء بعده أنه نظراً لحياة التسلية والتسري، وأجواء الفكاهة والترف، ورهافة المُجن والمجون التي كان يعيش في كنفها معظم الخلفاء والأمراء العرب على اختلاف عصورهم فقد انكبّ وهبّ ‏الأدباء والشعراء وغيرُهم من المُستظرفين على أبواب قصُورهم لإضحاكهم بحلو الفكاهات، وعذب النوادر، ولطيف المستملحات للحصُول على مكافآتهم وعطاياهم السخية من دنانير وهدايا ومطايا، وهبات وجاه ونفوذ! ومن أشهرهم في هذا القبيل هبنقة، وحُنيْن، وأشعب الطفيلي، وأبو الحسين ‏الخليع، وأبو العبر، وأبو دلامة، وقد روى لنا الجاحظ في كتابه «البيان والتبيين» غير قليل من أخبار هؤلاء المستظرفين، كما أنه يقول عن كتابه الشهير «البخلاء»: «ولك في ‏هذا الكتاب ثلاثة أشياء: تبين حجة طريفة، وتعرف حيلة لطيفة، واستفادة نادرة عجيبة، وأنت في ‏ضحكٍ منه إذا شئتَ، وفي لهوٍ إذا مللتَ الجد».
الفكاهة على مرّ العصُور
ونجد في العصر الحديث في مختلف البلدان العربية غير قليل من الكتاب ممن اشتهروا بهذا الأسلوب الفكاهي المرح، نذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر في مصر، إبراهيم عبد القادر المازني، وعبد العزيز البِشري، كما اشتهر كتاب عرب آخرون في مختلف البلدان العربية من المحيط إلى الخليج بهذا النوع من الأدب، وهناك جمهرة من الكتاب العالميين الذين اشتهروا بهذا الصنف من الأدب الساخر، نذكر منهم على سبيل المثال كذلك من البريطانيين جوناثان سويفت، تشارلز ديكنز، جورج أورويل، والكاتب الأيرلندي جورج برنارد شو، والقاص الغواتيمالي أوغوستو مونتيروسُو، والشاعر التشيلي نيكانور بارا، والأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، كما اشتهر في فرنسا بهذه الخاصية كتاب من قبيل فرانسوا رابولي، ونيكولا بوالو، وبلزاك، وفيكتور هوغو، وإميل زولا، وفولتير، وموليير، وفي إيطاليا نجد جيوفاني بوكاتشيو، وتيوفيلو فولينغو، وسواهم، وفي إسبانيا نجد ميغيل دي سيرفانتيس صاحب رواية «دونكيشوت» التي تزخر بشتى أنواع السخرية والمرح والخيال، وشيخ المسرحيين الإسبان لوبي دي فيغا، ورامون ماريا دي فاييي إنكلان، وخوان رويث أرثيبيتسي دي إيتا، وخوسيه كادالسُو، وتراشقات الشاعريْن الإسبانيين كيفيدو، وغونغورا، وغيرهم.
فيض الخاطر لأحمد أمين
ومن أطرف ما كُتب عن الضحك في الأدب العربي الحديث مقال لأحمد أمين تحت عنوان «الضحك» المُدرج في كتابه «فيض الخاطر» الصادر في القاهرة عام 1938 ومما جاء فيه: «ما أحوجني إلى ضَحْكة تَخْرُج من أعماق صدري حية صافية عالية، ليست من جنس التبسم، ولا من قبيل السخرية والاستهزاء، ولا هي ضحكة صفراء لا تعبر عما في القلب؛ وإنما تعبر عما في القلب؛ وإنما أُريدها ضحكةً أُمسك منها صدري، وأفحص منها الأرض برجلي، ضحكة تملأ شدقي، وتُبدي ناجذَي، وتفرج كربي، وتكشف همي. ولست أدري: لماذا تجيبني الدمعة، وتستعصي عليّ الضحكة، ويسرع إليّ الحزن، ويبطئ عني السرور، حتى لئن كان تسعة وتسعون سببا تدعو إلى الضحكة، وسبب واحد يدعو إلى الدمعة، غَلب الدمع وانهزم الضحك، وأطاع القلب داعي الحزن ولم يطع دواعي السرور».
للضحكة فعلٌ سحري في شفاء النفس وكشف الغم، وإعادة الحياة والنشاط للروح والبدن، وإعداد الإنسان لأنْ يستقبل الحياة ومتاعبَها بالبِشر والترحاب. فمؤلفي الروايات المُضحكة والنكت والنوادر يعدون أطباء يداوون النفوس، ويعالجون الأرواح، ويزيحون آلاما أكثر مما يفعل أطباء الأجسام. فالفكاهة هي القوة الفطرية الملائمة لجعل الحياة مقبولة ومستساغة، وميسرة، وذلك للتخفيف من أعبائنا وهمومنا، وينبغي ألا يغرب عن بالنا فحوىَ المثل المشهور، الذي ما فتئت ألسنتنا تلوكه في كل حين إلى اليوم .. (اضحكْ تضحك الدنيا معك.. ابكِ تبكي لوحدك)!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب