
تمثل الروح في التنزيل.. هل هو تجسيد؟

توفيق قريرة
(1) الروح تجسدا وجسدنة
الجسدنة (Embodiment) أو العرفان المجسدن، مفهوم شامل في البحوث العرفانية المعاصرة، يرمي إلى إعادة التمكين للجسد في عمق التفكير الإدراكي، بأن ينزّله مكانة لم تكن له سابقا؛ فهو ليس وعاءَ تفكير، بقدر ما هو مسؤول عن التفكير ومتفاعل مع الإدراك. له تدخّل في جميع الأحوال النفسية والعاطفية التي يعالجها الذهن. هذه الرؤية تقف على طرفي نقيض مع الرؤية التقليدية التي كان ينظر من خلالها إلى التمثيلات الذهنية، على أنها رموز مجرّدة تُخزّن في الدماغ وتُعالج بشكل مستقل عن التجربة الحسية. لكنّ الرؤية المجسدنة ترى أن التمثيلات الذهنية «متجذرة» في الأنظمة الحسية والحركية. هذا يعني أنّ المفاهيم المجردة هي أيضا قد تتأثر بتجارب الجسم. يفترض هذا المفهوم أن الفهم اللغوي ليس مجرّد عملية تجريديّة، بل يتجذّر ذلك الفهم في تجربتنا الحسية والحركية داخل العالم.
في اللسانيات العرفانية ترتبط الجسدنة ارتباطا وثيقا بالاستعارات التصورية (Conceptual Metaphors)، وفي علم النفس المعرفي، تشير أبحاث مثل تلك التي قدمها لايكوف وجونسون إلى أنّ العمليّات العقلية ليست منفصلة عن الجسد، بل متأثّرة به بشكل عميق.
اعتمادا على هذه المعطيات سننظر في مسألة مهمّة في التفكير الديني هي التمثّل أو التجسيد للروح التي ارتبطت في النصّ القرآني بظهور الملاك المرسل (عادة ما يوكل أمر هذا التجسد للملاك جبريل) وتجسده في صورة بشرية نمطية في أكثر من مناسبة مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) وقد جاءه بالتنزيل؛ ولكن أيضا مع مريم في لحظة المخاض المزامنة للحظة الولادة، ولادة النبي عيسى، عليه السلام. ما يعنينا هنا هو أنّ أغلب التفاسير توقفت عند ظاهرة التمثل، واعتبرتها تجسدا ولم تعتبرها جسدنة بالمعنى الإدراكي للعبارة، أي أنّه يمكن أن نسأل، هل هم المفسرون لتجسد الروح، كان فيه شيء من التركيز على إدراك مريم للروح المتجسّدة؟ أم كان فيه تبسيط لعملية التمثيل أي أنّ الروح أدركت في صورة بشرية مثالية، أو سويّة وفق عبارة النصّ.
يقول تعالى في سورة مريم (17): «فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّا». عادة ما يشرح لفظ «تَمَثَّلَ» على أنّه «ظهر» وفي أفضل الحالات يشرح بعبارة «اتخذ شكلا». ولكنّ الظهور لا يفي بأدنى حاجات معنى التمثل لأنّه يفترض أنّ ما ظهر خرج من العدم إلى الوجود؛ وأنّ الوجود المقصود هو وجود ظاهري. لكنّ اتخاذ الظاهر شكلا هو أفضل لأنّه يقتضي خروجا من الوجود المضمر، أو غير الظاهر أو غير المتشكل إلى الوجود المتشكّل على هيئة ما. وهذا يعني في الآية أنّ الملاك الأكبر جبريل خرج من وجوده الروحاني إلى وجود له هيئة البشر وشكلهم. وهذا ما يفهم من قول الطبري: «قوله تعالى ذكره: فتشبه لها في صورة آدميّ سويّ الخلق منهم، يعني في صورة رجل من بني آدم معتدل الخلق». وقد يذهب بعض المفسرين إلى أنّ من تمثّل بشرا هو عيسى نفسه وقال البغوي ناقلا عن غيره: «فتمثل لها بشرا سويا، وقيل: المراد من الروح عيسى عليه السلام، جاء في صورة بشر فحملت به». وهذا التصوّر الذي ينفيه البغوي يطرح إشكالا معقّدا في خلق عيسى عليه السلام، فهو كان روحا قبل أن يتشكل في صورة إنسان في أولى حالات الحمل والوضع. ويصرح القرطبي بهذا المسار في التمثل والتشكل فيقول: «لأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد ، فركّب الروح في جسد عيسى – عليه السلام – الذي خلقه في بطنها». التمثّل في هذه الفرضية مبني على أنّ الخلق مرحليّ يبدأ بالروح وينتهي إلى الجسد وهذا يشبه التصوّر الكلاسيكي القائل، إنّ التجسّد حالة مستقلة عن الحالة النفسية أو الروحية، فحتى إن كان الخلق في هذا السياق يقتضي التحوّل أو الانتقال في الهيئات، فإنّ التجسّد يظلّ مستقلا بنفسه عن الوجود الروحي الأصلي.
إنّ ما يذكره القرطبي في المقطع التالي مهمّ لأنّ فيه وعيا على الأقلّ ضعيفا بأنّ التجسّد ليس تمثيلا فقط، بل هو تمثيل مشبع بإدراك من تمثّله يقول: «والظاهر أنه جبريل – عليه السلام لقوله: فتمثل لها أي تمثل الملك لها؛ (بشرا) تفسير أو حال؛ (سويا) أي مستوي الخلقة؛ لأنها لم تكن لتطيق أو تنظر جبريل في صورته. ولما رأت رجلا حسن الصورة في صورة البشر، قد خرق عليها الحجاب ظنّت أنه يريدها بسوء». يبني المفسّر عملية إدراكية كاملة متأثرة بتمثل الجسد البشري نفسه: فمريم العذراء ليس في معطياتها الإدراكية بما هي بشر ما يخوّل لها أن ترى روحا وتحسن إدراكها. ففي البشر فقر في الأجهزة الإدراكية بشكل يجعل الأرواح غير قابلة لأن تدرك، حتى لو حضرت؛ لذلك فإنّ التجسيم – أي تجسيم الروح في مثال من البشر – هو طريق لتيسير إدراك موجود ليس لنا باعتبارنا بشرا وسيلة للوصول إلى إدراكه إلاّ بعد أن يتجسّد. وكان لا بدّ أن يتمثل لا في هيئة بشر فقط، بل في هيئة بشر سويّ. ولو سلكنا طريق الدلالة العرفانية لترجمنا عبارة سويّ هنا إلى عبارة طرازي Prototypical.
يعني ذلك أنّ جبريل لا بدّ، حتى يكون مألوفا من جهة إدراكه كيانا أو موجودا، أن يكون على هيئة بشر وليس أيّ بشر؛ بل بشر ممّن تعودت على إدراكهم مريم في وقتها يعني بما في ذلك لون البشرة والقامة والهيئة وسائر العناصر المألوفة في وقتها حتى من جهة اللباس. الطرازي في البشر المتمثل يختلف بالتالي من عصر إلى آخر، فلو رأت مريم وهي في عصرها شخصا من عصرنا لما كان سويّا أو مألوفا، ولو رأت بشرا من الصين أو الهند وهي في موضعها الذي عاشت فيه، لما كان بالنسبة إليها سويّا كذلك. لكنّ التمثل الإدراكي لجبريل، وعلى الرغم من كونه كان بشرا طرازيا بالنسبة إليها، فإنّها، حسب القرطبي، قد توجّست منه خيفة. والتوجّس خيفة تمثيل وليس تمثلا؛ بمعنى أنّه حالة نفسية تشعر بها امرأة تجاه رجل غريب في مكان قصي. لقد تأثرت العملية الإدراكية بالتمثيل في صورة بشر فبعض جوانب الإدراك (مثل الإدراك المباشر أو التخطيط الحركي، التقييم النفسي) مرتبطة بوضوح الجسم، فقد أدمج التفكير المجرد بين التجارب الجسدية والتمثيلات الرمزية التقليدية. وهذا هو متن الجسدنة: أنّ تأثرنا بالعواطف ومعالجتنا للمواقف يتدخل فيها كون البشر جسدا ذكرا أو جسدا أنثى. عندما تقوم بفعل ما أو نشعر بإحساس معين، يستخدم دماغنا تلك المعلومات لبناء نموذج ذهني لبيئتنا. لقد كان تفسير القرطبي الأخير أقرب إلى معنى الجسدنة لا التجسيد.
وهكذا كشفت دراسة عبارة (تَمَثّل) في هذا المقطع من سورة مريم عن الكيفية التي شكلت تجارب مريم الجسدية وتفاعلاتها مع الجسد المتمثل الطريقة التي بها فكرت وعالجت المعلومات في خارجها. وهذا أمر إدراكي طبيعي لا معجزة فيه. المعجزة لن تكون بتمثل جبريل، بل بتمثل آخر، أو بجسدنة أخرى هي التي يكون بطلها عيسى عليه السلام.
أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية